«لم يكن للكمساري أن يتخذ هذا القرار لولا مباركة وموافقة بقية الركاب» .. هند البنا : الكمساري ليس القاتل الوحيد

الموجز

في تحليلها لحادث قطار الأسكندرية الأخير والذي راح ضحيته الشاب محمد عيد ، وذلك بعد إجبار الكسري له على القفز من القطار أثناء سيره، مما تسبب في وقوعه أسفل عجلات القطار ، حيث كتبت الدكتورة هند البنا استشاري الصحة النفسية، على صفحتها على موقع التواصل الإجتماعي فيس بوك : مشهد من فيلم رعب أمريكي، لا أتذكر اسمه الأن، تدور أحداثه داخل قطار يسير بسرعة ولا يتوقف، عربات القطار مقسمة طبقات اجتماعية مختلفة، من الأدنى إلى الأعلى ، وغير مسموح بتنقل ركاب عربات الدرجة الثالثة لبقية عربات القطار، وإن حدث، فيكون العقاب ، فتح باب إحدى العربات، وإلقاء هذا المتمرد خارج القطار ليكون مصيرة الموت المحقق،عقاباً له على تجاوزه حدود النظام، وبموافقة الجميع.

وتضيف هند البنا : تذكرت ذلك المشهد السنيمائي، وأنا أتابع مشهد واقعي أكثر قتامة ، حدث في العربة رقم 4 مكيف لقطار رقم 934 اسكندرية، حيث تم إلقاء اثنين من الباعة الجائلين أو على الأقل اضطرارهم للقفز من عربة القطار أثناء سيره بسرعته القصوى، كما ذكر العديد من شهود العيان، ليلق أحدهم مصيره المحقق بالموت، والثاني يصاب بتشوه دائم في ساقه، لمجرد أنهما قررا الوصول لعربات الدرجة المكيفة، لبيع بعض المنتجات التي قد لا يحتاجها ركاب العربة، ولم يملكا حق التذكرة (35ج).فيقرر "كمساري القطار" وركاب العربة (بشكل ما) أن عقابهما هو إلقائهما خارج حدود العربة رقم 4، بدون لحظة تردد واحدة أو إعادة تفكير في دموية هذا السلوك.

المشهد بأكمله يتحمل مسؤوليته الجميع، الكمساري (مدير القطار) صاحب السلطة والقرار، و الركاب الذين توافقوا على صحة هذا السلوك، حتى الضحية البائع المتجول.. في لحظة غاب فيها العقل والضمير لدى الجميع، وتم افساح المجال لمجموعة من الاضطرابات والخلل النفسي، ودعونا نتخيل الأحداث منذ بدايتها.

وجاء تحليلها النفسي للحادث من جميع جوانبه كالتالي :- 

التحليل النفسي لشركاء الجريمة:

1ـ الركاب ( بارانويا العظمة والتميز)

يقرر(محمد عيد عبد الحميد) البائع المتجول ، أن يعرض بضاعته على ركاب القطار ، العربة رقم (4)، فيدخل هو و زميله وبصوته الجهوري، يقرر بيع منتج بسيط للغاية وبأسعار زهيدة لا تتناسب مع ركاب العربة، ولكن طمعاً في مكسب سريع يوفر عليه مجهود يوم شاق، قرر أن يخوض المغامرة للنهاية.. في نفس اللحظة أتخيل أحد الركاب ودعونا نقول أنه في منتصف عمره ، أو يزيد، ملامح حادة، يشتبك منذ دخوله عربة القطار بكل من حوله من الركاب بلا داع، يتأفف بشكل مبالغ فيه من الجالس إلى جانبه لمجرد أنه يتحرك كثيراً في كرسيه مثلاً،يشعر بكونه إنسان مختلف ومميز عن الأخرين لمجرد استقلاله قطاراً مكيفاً لا يُسمح فيه ـ من وجهة نظره ـ أن يرى أو يختلط بمن هم دونه..من طبقات أقل...

حاله كحال أغلب ركاب العربة، يشعرون باختلاف وهمي ، بل وقد يسمحون أحياناً بنفي كل من خالفهم أو اختلف معهم، فأنا ضد وصفهم باللامبالاة أو انعدام مشاعر الرحمة، الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، فأحياناً يمنحنا المكان مساحة نفسية تشعرنا بالتميز خاصة إن كان لهذا المكان شروط معينة، كالمولات أو قرى المصايف في الساحل ، أو كمبنوند سكني مغلق، أو... كعربة قطار مكيف، لن يُسمح لمن هم أدنى وغير متحققي الشروط، بالتواجد معنا في نفس المكان، مشاعر مرضية بالبارانويا أو التميز ، تصيب الإنسان أحياناً في حال تواجده في مكان مغلق ظن أنه مميز داخله.

لحظة مرور "محمد عيد" استفزت مشاعر هذا الراكب المتخيل، وغيره من الركاب ، فتورط الجميع في الاعتراض بوهم التميز الساكن في نفوس الركاب في تلك اللحظة.فكيف يختلط من هو أدنى بمن هو أعلى وأفضل . وحسب تصريحات الكمساري، أنه حدثت حالة من الهرج والمرج داخل العربة، بمعنى أن الركاب هم أصحاب الفكرة الأولى في الرفض.. في تلك اللحظة، تصادف مرور كمساري القطار، ممثل السلطة / صاحب القرار في تحديد مصير الركاب، كما يعتقد هو.

2ـ الكمساري(سادية وهوس السلطة)

أتخيله رجل يعاني طوال الوقت من ضغوط بيته ومديرينه، وحياته اليومية، لا يشعر بكيانه أو وجوده إلا لحظة تحرك القطار، ووقوفه على رأس كل راكب لمتابعة التذاكر، و توقيعها ، وكأنه يمنح صك العفران والسماح لوجود الركاب في القطار، ويحدد مصير البشر وكأنه مدير العالم المتحرك على قضبان ، رجل يقضي نصف عمره في عربات حديديه مغلقه، لا يشعر بكيانه أو ذاته إلا داخلها. .. في تلك اللحظة يقرر أن يأخذ صف الركاب، ويتخذ قراراً غريباً تتجلى فيه أقصى مراحل الاحساس بهوس السلطة ، وبشكل ما، وبتحالف ركاب القطار، إما بالموافقة أو بالصمت، يقرر أن يلق بمحمد من عربة القطار ، فيأتي بالمفتاح، ويفتح باب العربة، ويجبر محمد على القفز ، والبقية نعرفها جميعاً..

لحظة نفسية غاية في التعقيد، فالكمساري تسكنه فكرة تطبيق النظام، أو هكذا اعتقد، كحيلة دفاعية يمارسها ضد شعوره بهوس السلطة والسادية، كان من الممكن أن يختار تسليم البائع لأقرب نقطة شرطة في المحطة التالية، خاصة وأن الباعة الجائلين فعل متكرر في كل قطارات السكك الحديد، أو غيره من الخيارات، ولكنه ونتيجة لهوسه بالسلطة، وعدم قدرة "محمد عيد" دفع ثمن التذكرة (35ج)..اختار أكثر الأفكار سادية، وهو إلقاء البائع وزميله من القطار، فذهب في مشهد من أفلام الرعب، وأخذ مفتاح العربة من العامل، وفتح باب العربية، و طالب "محمد" بالقفز.. وبعد تردد تم تنفيذ الفكرة، وبمباركة بقية الركاب.

3ـ اتحاد هوس العظمة بهوس السلطة..

لم يكن للكمساري أن يتخذ هذا القرار لولا مباركة وموافقة بقية الركاب،الذي كان بامكانهم اختيار دفع تذاكر محمد عيد وزميله، أو منع مدير القطار من تنفيذ تلك الفكرة السيكوباتية المعادية للإنسانية، لكنهم واقفوا وهللوا وباركوا أن يتعرض إنسان إلى خطر حقيقي.. لمجرد شعورهم بالرضا النفسي لكونهم مميزين عن بقية البشر، فالمذنب الحقيقي ليس الكمساري فقط، ولكن الجميع مدان، ركاب القطار يعبروا عن شريحة ضخمة من المجتمع الذي يساهم أحياناً في ترسيخ أفكار عدائية ودموية ضد بعضهم البعض، فالحال الركاب في تلك اللحظة هو حال المجتمع الذي يسعى لتميز مادي وهمي ليس حقيقي، ويساهم في إلقاء كل من اختلف مع تلك الشريحة الاجتماعية، خارج عربة القطار. 

تعليقات القراء