د. محمد نبيل جامع يكتب: هل يصلح الإخوان المسلمون لحكم مصر؟ الحلقة الثانية

أ.د. محمد نبيل جامع

أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية

 

رفض الإمام علي رضي الله عنه أن يحكم بغير القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رفض أن يحكم بالضرورة بما أتى به الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على نفس درجة القرآن والسنة قائلا: إن لي اجتهاداتي وللشيخين اجتهاداتهما. الإنسان المتعلم الحق يسمع ويقرأ، ثم يُعمِل عقله ويتدبر، ثم يختار قوله وعمله.

الطاعة العمياء أسلوب كهنوتي يرفضه الإسلام، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأنت ترى الآن أيها الشباب المصري قيادات سياسية إسلامية تقول كلاما بل وتفعل أفعالا ثم تعتذر عنها ويتكرر الموقف كثيرا. الصوت العالي والجبرية والتشنج هي دائما دليل علي ضعف موقف الإنسان وهشاشة منطقه كما تقول ابنتي ذات العشرين ربيعا. ولا نقول أكثر من ذلك.

لقد قلنا في المقال السابق أن جماعة الإخوان المسلمين، وأتباعها من دعاة الإسلام السياسي، بصرف النظر عن وضعيتها القانونية والشرعية، جماعة ذات ثقافة خاصة في نسيج الشعب المصري، ولا يصح أن تفرض ثقافتها على الشعب المصري من خلال كونها الحاضنة الفكرية لحزب الأكثرية، حزب الحرية والعدالة، بأحكامها التي تُرهب البسطاء بأنها أحكام الشريعة والدين ومن يطِع فهو في الجنة، ومن يعصي فهو في ويل جهنم.

يقول عظام الفقهاء والمفكرين أمثال الإمام الغزالي والأستاذ جمال البنا وغيرهما أن الحرية تحتل أولوية أولى قبل تطبيق الشريعة في الفقه الإسلامي، أو بمعنى أدق الحرية هي بسملة الشريعة أو نقطة انطلاقها. الحرية في مفردات الإسلام السياسي السائد حاليا سواء من جانب "الإخوان" أو من جانب "السلفيين" تكاد تفقد روحها وتختنق أنفاسها.

إذا كنت إخوانيا أو سلفيا أي متحمسا لتيار الإسلام السياسي المعاصر، اسأل نفسك: هل تستطيع أن تقول عن شخص مسيحي، مينا مثلا، أخي مينا؟ أو أن تقول عن مواطن يهودي مصري "أخي شيمون"؟ بل الأدهى من ذلك: هل تجد راحة نفسية عندما تقول لمسلم مثلك ليس عضوا في الجماعة الإخوانية "أخويا وائل" مثلا؟ بعد الإجابة على هذا السؤال، ألم تعلم أن الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام كان يقول أخي عيسى، وأخي موسى، وأخي يونس؟ والأغرب من ذلك أنك لو سألت مواطنا بسيطا في الريف أو العشوائيات أو حتى في جاردن سيتي هل كان سيدنا عيسى مسلما؟ ماذا تتوقع إجابته؟ بل ربما ماذا ترى أنت؟

ألا ترى حساسية مفرطة في مثل هذه التساؤلات، والتي لا يقوى عليها إلا من ترسخت في ذهنه العقيدة والقيم الإسلامية؟ كيف نسمح لمثل هذه المساجلات العاطفية العقيدية أن تتحكم في سياسة الدولة ونظام حكمها؟ السياسة لا تخضع للعاطفة إلا في النذر القليل جدا وخاصة عندما يتعلق الأمر بأمور كالشخصية الكارزمية (الملهمة) أو الانتماء القبلي أو العصبية أو الانتماء الديني أو ما شابه ذلك وهي كلها أمور غير موضوعية لا تناسب الكفاءة السياسية.

عندما ترى الكعبة لأول مرة تبكي، أما عندما ترى الأهرام لأول مرة فلا تبكي. عندما تعلم أن يهوديا أسلم لأن الحبيب محمدا صلى الله عليه وسلم سأل عنه رحمة به عندما انقطع إلقاء القمامة عند باب بيت الحبيب تبكي، عندما تسمع القرآن على لسان إمامٍ عذبِ الصوت بميكروفون خفيض في صلاة فجر تبكي، عندما تعلم مقدار غفران الله للعبد وفرحته بتوبة عبده وسبق رحمته لعذابه تبكي، عندما تعلم أن أبا بكر لم يحرك فخذه متحملا لدغة العقرب كي لا يوقظ الحبيب من غفوته في الغار تبكي. هل بكيت يا عاشق عبد الناصر أو جون كينيدي أو هتلر أو غانذي أو مارتن لوثر كنج عندما كان يلقي أحدهم خطابا سياسيا؟ لم يحدث. الدين عاطفة أما السياسة فعقل دون عاطفة. التقوى ها هنا، وأشار الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، ولم يشر إلى مخه أو رأسه.

لأول مرة أقولها في حياتي "الدين لله والوطن للجميع". لم أكن من قبل مقتنعا جدا بهذا الشعار ولم يكن مع ذلك يثيرني، أما اليوم، وبعد مرحلة العك الدستوري واللعب بالدين فيبدو أنه حق فعلا. في السياسة يكفي أن تكون "رجل دولة" Statesman، لا "سياسيا" Politician حيث أن الأول يلتزم بالأخلاق السماوية والإنسانية العليا، أما الثاني فهو انتهازي يعرف من أين تؤكل الكتف. تسألني وماذا تقصد بالأخلاق السماوية إن لم تكن متدينا تطبق أحكام الشريعة بكل صرامة وبكامل حذافيرها في سياسة الدولة؟ أعطي سيادتك مثالا واحدا فقط أوضح به الأخلاق السماوية في السياسة، وهو قضية معيار العدالة، تلك العدالة التي هي أم الفضائل. في النظام الرأسمالي، العدالة تتمثل في عبارة واحدة: "لكل على قدر عمله"، بمعنى أن العدل في هذا النظام يعطيك الفرصة لتكون مليارديرا إذا كنت مجتهدا في عملك، وعملك هذا يثمر كل هذه المليارات، وهنا لا توجد مشكلة، أما إذا كنت عاجزا أو عاطلا أو غير راغب في العمل لأي سبب فالجحيم مثواك في الدنيا ولا شفقه بك، وهذا بالمنطق أمر غير عادل وغير إنساني.

 في النظام الشيوعي معيار العدالة هو: "من كل علي قدر طاقته ولكل على قدر حاجته"، بمعنى أن تعمل بكل طاقة تملكها ولا تأخذ إلا مقدار حاجتك، أي 1800 كالوري من الغذاء وغرفة بها سرير عرض 90 سنتمترا، .... إلخ.

أما في الإسلام والقيم الإنسانية العالية فيتمثل معيار العدالة في: "لكل على قدر عمله، ولكل على قدر حاجته الكريمة". العاجز والفقير والمسكين لهم حق الحياة الكريمة دون مَن أو أذى، والغني كما كان عبد الرحمن بن عوف يُكَسر الذهب لديه بفأس كما يقال.

هذا كل ما تحتاجه السياسة من الدين (قيم ومبادئ). تحتاج الحرية الدينية. تحتاج السماحة والبشاشة والابتسامة وحسن الطلعة في وجه من هو من دينك ومن هو من غير دينك على السواء. تحتاج حرية تطبيق الشعائر الدينية وتوافر دور العبادة لكل طائفة دينية. تحتاج العدل بين الطوائف بصرف النظر عن دياناتها. تحتاج الحق في الوطن، والحق في التعبير، والحق في النقد والتقويم لكل الطوائف. تحتاج بث روح التعاون والتآلف والاعتصام بالمشتركات ونبذ الخصوصيات. تحتاج العدل في كلمة واحدة، وتحتاج من قبل ذلك كله السلام الاجتماعي. أليس هذا ما نحتاجه اليوم من المجلس العسكري وحكومته؟ السلام الاجتماعي والعدل؟ لو حدث ذلك ما ظهرت أصلا تلك الجماعات والفرق الدينية والسياسية وغيرها بصورها المتطرفة التي تبث الرعب في نفوس المواطنين اليوم.

الخلاصة: الدين والسياسة يأتيان من مَعِينَينِ مختلفين، اذا اختلطا تصارعا، ومن ثم فقد حرما الاستدامة. الدين مرجعه سماوي، والسياسة مرجعها أرضي. الدين لله والسياسة للجماهير. الدين حب وعاطفة وتصديق وإيمان، والسياسة تَنَاُفس وصراع وشك وتخوين. رِفعة الدين زهد وصوفية، ورفعة السياسة مادية واستبدادية. الدين قانونه التقوى، والسياسة قانونها النفعية. وصدق بن خلدون عندما قال أن العلماء هم أفشل الناس في السياسة.

وهكذا، إذا دُرب الإنسان وتعلم ليكون دينيا فإن أَشْغَلته بعالم السياسة فيعني ذلك أنك تكون قد دربته ليكون مناسباً في مناسبة غير مناسبة. وإن دربته ليكون سياسياً ثم أشغلته بعالم الدين فتكون قد دربته ليكون مناسباً في مناسبة غير مناسبة، تكون قد دربته على "العجز المكتسب" وهذا هو الذي كان يقصده العلامة جون ديوي في توصيفه لهذه الكارثة الإنسانية، وَصْفَة التخلف وطريق الانهيار. وهذا ما أدركه الدكتور هشام أبو النصر عضو الهيئة العليا لحزب النور الذي استقال من موقعه في الحزب معترفا بأخطاء التيارات الإسلامية وراجيا الثوار أن يقبلوا اعتذاره إليهم جميعا. الآن نسمعك أيها الشيخ الجليل في المسجد، وتخشع قلوبنا معك تسبيحا وتمجيدا لله سبحانه وتعالى، وتفيض عينانا حمدا لجلاله على نعم العقل والحرية وكرامة الإنسان.

 

اقرأ أيضا: هل يصلح الإخوان المسلمون لحكم مصر؟ الحلقة الأولى


تعليقات القراء