د.عز الدين شكرى فشير يكتب: خسارة نبيل

د.عز الدين شكرى فشير يكتب في جريدة التحرير

خسرنا نبيل العربى مرشحا يكاد يكون مثاليا لرئاسة مصر فى انتقالها الصعب إلى الديمقراطية، وربحت قوى الفوضى مزيدا من الفوضى. بمجرد أن أصبح اسمه مطروحا بشكل فعلى، انطلقت آلات التشهير ضده، فصبت عليه فى ليلة واحدة شتّى التهم واستباحت الخوض فى ذمته وولائه وأسرته وتاريخه. لا يحتاج التشهير إلى دليل، بل إلى أبواق، وهى كثيرة. ولا يحتاج التشهير إلى منطق: فيمكنك أن تتهم نفس الرجل بأنه عميل لدول الخليج ولسوريا وإيران وأمريكا فى نفس الوقت. أى كلام يمشى، المهم أن يكون جارحا وصادما ومكثفا بحيث لا يمكن للمستهدف الرد عليه كله، وإن حاول قضى وقته كله فى الرد بما يزيد من تكرار التهم نفسها، وإن لم يرد قيل إن صمته إثبات للتهم. نفس ما حدث من حملة التشهير بمحمد البرادعى.

نبيل العربى، لمن لا يعرفه، رجل دولة حقيقى ومواطن بسيط فى آن واحد. تاريخه المهنى ناصع النجاح والأخلاق. لم أعمل معه أبدا، لكنى فى كل مكان ذهبت إليه سمعت مديحا فى أخلاق ونزاهة الرجل وقدراته المهنية. دبلوماسيو العالم الثالث يجلونه لدفاعه الصلب عن قضايا وهموم دولهم، سواء فى الأمم المتحدة أو فى محكمة العدل الدولية التى كان قاضيا فيها. ممثلو الدول الأوروبية يحترمون استقلاله وفى نفس الوقت تعقّله وبعده عن المهاترات التى يقع فيها دعاة الاستقلال. أما الأمريكان فيلخص موقفهم ما قاله لى مساعد وزير الخارجية الأمريكى منذ سنوات، أنه كلما رأى نبيل العربى يتحدث فى مجلس الأمن ندم على دعم بلاده ترشح مصر لعضوية المجلس!

عرفت نبيل العربى مواطنا حين التقيته بعد تنحى مبارك فى عشاء مع وزير خارجية أستراليا الزائر. ما سمعته منه مباشرة أكد لى ما سمعته عنه: مواطن مصرى فى الصميم، بسيط، وعقله وقلبه فى المكان السليم. إيمانه حقيقى وراسخ بضرورة تمتع الشعب المصرى بحقوق الإنسان المكفولة لكل البشر، وبضرورة رسم خريطة طريق للمرحلة الانتقالية تضمن بناء نظام سياسى ديمقراطى حقيقى، لا بشكل مظهرى بحيث يقطع خيط الاستبداد الطويل، وبضرورة مساعدة العالم الخارجى مصر، وفقا لأولوياتها ورؤيتها الخاصة.

نبيل العربى ليس من شباب الثورة، وليس من تيار الإسلام السياسى، وليس من المؤسسة العسكرية الأمنية. لكنه رجل دولة، ومواطن. يفهم جيدا وبعمق حاجة مصر -مجتمعا ودولة- للتغيير الشامل والعميق، ولتطهير خطايا الماضى وبناء المستقبل لكل أطياف مصر وفئاتها. ليس رجلا تصادميا، لديه هدوء ومرونة من عمل بالدبلوماسية طيلة حياته، لكنه لا يخلط الحق بالباطل ولديه وضوح رؤية وصلابة مَن كان رجل قانون طيلة حياته.

لسنا بلدا ذا نظام ديمقراطى مستقر، تجرى أحزابه انتخابات أولية داخل جمهور الحزب كى تخرج بمرشح له الفرصة الأكبر فى الفوز. لسنا بلدا ديمقراطيا مستقرا تبلورت قواه السياسية واتضحت ولاءات الناس واستقرت أنماط التصويت. لسنا بلدا ديمقراطيا مستقرا يبنى فيه السياسيون اسمهم وتاريخهم فى مسار مفتوح وعلنى بحيث يمكن للناس الحكم عليهم حين يترشحون. لسنا أيًّا من هذا، بل نحن بلد خارج من مئات السنين من الحكم الاستبدادى. إن كنا نسينا فلنتذكر: نحن بلد لم نختر رئيسنا إلا مرة واحدة منذ مئتى عام، والباقى فرض علينا.

وشخص بهذه الصفات وهذا التاريخ، يكاد يكون مثاليا لرئاسة مصر الانتقالية، ومستحقا -فى رأيى- دعم كل القوى السياسية التى تريد لمصر انتقالا نحو ديمقراطية مستقرة خلال السنوات الأربع القادمة، ولثقة الشعب الحائر الباحث عن شخص يستحق الثقة، ولا يكون محسوبا على تيار دون تيار.

لكن آلة الدمار دفعت بالعربى بعيدا، وعدنا للفوضى الأثيرة لأهل الفوضى: مرشحون إسلاميون لا يريدهم الديمقراطيون ولا العسكر، ومرشحون عسكريون لا يريدهم الديمقراطيون ولا الإسلاميون، ومرشحون ديمقراطيون يثيرون ذعر الإسلاميين والعسكر، ومرشحون فلول وبقايا نظام لا يريدهم أحد. ولن ينجح أحد من هؤلاء فى الحصول على أغلبية تفوق الخمسين بالمئة. هل مكتوب علينا أن يحكمنا رئيس لم تختره أغلبية؟

خسارة أيها النبيل العربى. أو كما قال محمود درويش: «خسرنا، ولم يربح الحب شيئا».

 

المقال على موقع جريدة التحرير

تعليقات القراء