د. إبراهيم منصور يكتب: خرج ولم يعد

د. إبراهيم منصور - رئيس قسم اللغة العربية بآداب دمياط – جامعة المنصورة - 25 يناير 2012م

 

 

( 1 )     خرج ضابط الحرس من مكتبه بكلية آداب دمياط يوم الثلاثاء بعد أن نزع ورقة يوم 24 يناير من نتيجة الحائط  ، ولابد أن الضابط الشاب  كان على يقين من أن خروجه لمواجهة مظاهرة في ميدان البوسطة في شارع الكورنيش بمدينة دمياط ، أو في أي موقع آخر بالمدينة ، سوف يكون عملا روتينيا يساعد فيه ضباط الداخلية من كل القطاعات مع ضباط وجنود الأمن المركزي ، إنها أوامر أمن الدولة التي لا ترد ، ولكن لا بأس إذا كان العمل المريح والمميز جدا في حرس الجامعة يتخلله أحيانا مثل هذه المهام التي تذكّر الضباط والجنود أنهم في النهاية من الشرطة وأنهم يتبعون وزارة الداخلية ، وإن كان مقر عملهم في الجامعة .

  لقد أبلغه العميد محمد البلتاجي قائد الحرس بدمياط بالأوامر ، وتركه يمضي ليسلم نفسه لضباط أمن الدولة ، أما البلتاجي نفسه - وكنت قد عرفته في نهاية عام 2010 م - فقد  كان مريضا بالكلى فلم يشارك في هذا العمل ، وقضى الله أن يتوفى بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالديكتاتور ، ودفن في بلدته كفر المياسرة مركز الزرقا  ، ولكني لم أعرف أنه ابن عم صديقي المهندس جمال البلتاجي ، ولم أشارك في جنازته ، فقد علمت بالوفاة بعد مضي أسبوع .

 هل ذهب قائد الحرس بآداب دمياط إلى ميدان الشهابية أم ذهب إلى ميدان البوسطة أم كان عليه أن يقف في النقطة الساخنة بباب الحرس ؟ علم ذلك عند الله .

( 2 )     أنا شخصيا كنت في ميدان البوسطة أمام تمثال بنت الشاطئ ، بدأنا الوقفة عند تمام الواحدة ظهرا ، كنا عشرة ناشطين بالتمام والكمال : محمد درة ، صاحب البيت حيث مقر حزب الأحرار مكان التحرك ، ومنتصر زميله في الحزب  وصديقهما عضو حزب العمل عبد الوكيل مصطفى ومحمد التوارجي منسق حركة كفاية بدمياط وشادي التوارجي ومحمد الشطوري من حزب الكرامة ، وأحمد خضر وأنيس البياع  وأحمد عماشة الإخواني الوحيد بيننا ، وأخيرا كاتب هذه السطور .

  حينما وقفنا على الرصيف وبدأنا الهتاف كان معنا علم مصر نحمله ونلوح به  ، لم يكن عدد الأعلام يزيد على علمين أو ثلاثة ، وكان أحمد عماشة وحده يحمل راية لونها أخضر فستقي لا أدري إلى ماذا كانت ترمز تلك الراية ، كانت راية صغيرة مثبتة في عصا قصيرة لكنه كان يحملها فوق كتفه ويجول بها على الرصيف وسط هذا الجمع من الأصدقاء بطريقة مضحكة ، وبدأ محمد درة الهتاف في ميكرفون يدوي كان يحمله كلما خرجنا ، في مناسبة من المناسبات ، وكان آخرها يوم 3 يناير حينما وقفنا أمام برج الشرطة وانتقلنا إلى الكنيسة لتعزية إخواننا في ضحايا ليلة رأس السنة الدموية في الإسكندرية يوم العدوان على كنيسة القديسين . يومها أصر الضباط ألا نمشي في الشارع مجتمعين بل نركب السيارات أو نمشي متفرقين ، وقال كبيرهم هذا هو الاتفاق ، أذعنا له التزاما بالاتفاق .

   بعد نحو ثلاثة أرباع الساعة كان العدد قد زاد على الخمسين ، وكان نحو مائة شخص آخرين قد وقفوا يتفرجون ويستمعون للهتافات العالية بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية : عيش حرية كرامة إنسانية ، وفجأة حضرت مجموعة الحزب الناصري بقيادة أحمد سرّيّة وضياء داوود ومحمد بركات وجمال كسبر وآخرين ،  لم تقف المجموعة الجديدة على الرصيف ، وما الذي يلزمهم بهذا الكردون وهم قد تحركوا من أمام الحزب الناصري إلى حيث نقف نحن هنا ، وقاد أحمد سرّيّة الهتاف وألهب المشاعر وبث في الحاضرين  روحا من التحدي ، فنزلنا من فوق الرصيف إلى بحر الشارع ، وهتفنا وراء أحمد سرّيّة ، فقد أخذ يضرب على صدره بقوة هاتفا " إحنا اصحاب القضية ، إحنا اصحاب القضية " و " يا جمال قول لابوك الدمايطة بيكرهوك " ورددنا خلفه هتافاته في حماس بالغ ، في هذه اللحظة أخذت الأعداد تتزايد والجو يزداد سخونة ، وكانت الساعة قد بلغت تمام الثانية ، فأخذ الضباط يخاطبون التوارجي ودرة والبياع مطالبين بالالتزام بالموعد المتفق عليه أي الانصراف بعد ساعة واحدة ، في هذه اللحظة تناول التوارجي الميكروفون وأخذ يخطب قائلا " الضباط ليسوا أعداءنا ، نحن نحتفل اليوم بذكرى البطولة التي أبداها ضباط الشرطة الشجعان في الاسماعيلية في عام 1951 ، سوف نتلتزم ونوقف المظاهرة الآن ، ولكن نعدكم أننا سنكون هنا قريبا  وسوف نحتفل مرة أخرى وسوف يكون احتفالنا بالنصر ، وأما حبيب العادلي فسوف يكون  سجينا خلف القضبان " وصفق الحضور ، وهتف الجميع : يسقط يسقط حسني مبارك ، وانتهت المظاهرة عند هذا الحد.

 

( 3 )     كان ظني حتى ذلك الوقت أن مظاهرة دمياط هي هذه المظاهرة التي شاركنا فيها ، وأنها قد انتهت عند هذا الحد ، لكني كنت مخطئا تماما ؛ لأن مظاهرة أخرى كانت هناك في منطقة باب الحرس ، حيث تجمع شباب 6 أبريل ، وعلمت فيما بعد أنهم قد كسروا الطوق الذي كان يحاصرهم على الرصيف عند محطة الأتوبيس وتحركوا في شارع الجلاء حتى وصلوا إلى ميدان البوسطة ، في هذه اللحظة كان مصير ضابط الحرس الجامعي بكلية الآداب يتغيربشكل درامي ، فقد كتب في كتاب حياته المهنية  فصل جديد ، فهل كان الضابط الشاب يدري بما تحيكه له الأقدار ؟

 حينما تحركت الموجة البشرية في الشارع واستعصت على السيطرة الشرطية المعتادة ، تقرر ألا تعود الشرطة لسكناتها وأماكن انتشارها الأصلية ، ولكن تبقى في الشوارع حتى إخطار آخر ، لم يعد هناك فرق بين نقطة وأخرى ، أينما كان ضابط الحرس  ، فإن عودته لمكتبه في كلية الآداب أصبحت مؤجلة حتى إشعار آخر .

 

( 4 )     لم أكن أعمل رسميا في كلية آداب دمياط ، وإن كنت عملت بها منتدبا بعض الوقت ، ولا كنت أعرف ضابط الحرس معرفة شخصية ، كان العميد محمد البلتاجي قد ذكر اسما أمامي قائلا : الضابط إيهاب ، وكرّت أيام الثورة المجيدة تباعا وعدنا لعملنا في الجامعة ، وجاء الجيش يحرس المنشآت الجامعية ، ثم قدر لي أن أنتقل من جامعة طنطا إلى جامعة المنصورة في دمياط ، وتبخر الحرس الجامعي تماما فقد نفذت الجامعات حكم القانون الذي كان يقضي بأن تعين كل جامعة حرسا جامعيا من المدنيين يتقاضون أجورهم  من أموال الجامعة  ويتبعون رئيسها تبعية مباشرة ، وكرّت الأيام أيضا وتقرر أن تقام انتخابات جامعية ، فترشحت لعضوية لجنة انتخابات الكلية ، ثم أصبحت بحكم الأقدمية رئيسا لتلك اللجنة ، وبدأت أمارس عملي من حجرة خصصتها إدارة الكلية لعمل اللجنة .

   كانت الغرفة التي تسلمناها مؤثثة جيدا ، بها أنتريه منجد ومكتب ومروحة رِجْل "فريش" ، وتليفون أرضي ، لاحظت أن التليفون لا يعمل ، فطلبت إعاة توصيله ، وجاء عامل التليفون لإصلاحه ، وفي حواري معه قال إن التليفون كان لضابط الأمن وأنه لا يعمل منذ ترك الضابط عمله في الكلية ، كان وجود غرفة خاصة وتليفون وأنتريه ومروحة لاستخدام شخص واحد في كلية آداب دمياط أمرا استثنائيا للغاية لأن مبنى الكلية صغير جدا، والإمكانيات محدودة ، وعميد الكلية دائما هو أستاذ منتدب من المنصورة ، ولا يريد لأحد أن ينافسه في المزايا التي يتمتع بها في منصب العميد ومنها وجود جهاز التليفون بخط مباشر والمروحة والأنتريه ، لكن ضابط الأمن كان استثناء من ذلك التقشف ليس في آداب دمياط - الفقيرة جدا - وحدها بل في كل كليات الجامعة في مصر تقريبا .

   لم أجد في مكتب الضابط أوراقا تدل على عمله ، فيما عدا بعض تصاريح دخول السيارات إلى حرم الكلية ، ومن المتعلقات الشخصية كان هناك علبة عيدان بلاستيكية لتسليك الأذن ، ما عدا ذلك لم يبق من أثر الضابط شئ على الإطلاق ، ومضى اليوم الأول وأنا أعيد ترتيب الحجرة وتنظيفها ، وغادرت المكان في نهاية اليوم ، وقد ذهبت أخبار الضابط إلى ركن خفي من شعوري واهتمامي .

( 5 )     في اليوم التالي عدت لمواصلة العمل في لجنة الانتخابات ، كان يوما جديدا من شهر سبتمبر ، يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من شهر  سبتمبرعام 2011م ، وحينما شرعت في كتابة التاريخ وأنا أسجل أول محضر لاجتماعات اللجنة ، نظرت إلى الحائط أسأل النتيجة عن تاريخ اليوم ، في هذه اللحظة لمحت التاريخ عن بعد فلم أتبينه جيدا لكنني عرفته ، وأيقنت أنه هو ، هو يوم العيد ، ذهبت أعدو إلى الحائط المعلقة عليه النتيجة ، وأمسكت بالورقة ، كان التاريخ المدون عليها هو 25 يناير 2011م ، وقد كتب بأسفل الورقة "عيد الشرطة" ، ياااا اللله ، في هذه اللحظة تحديدا كنت شغوفا جدا أن أسأل عن الضابط ، عن اسمه ، وعن رتبته ، وفي هذه اللحظة عرفت الاسم كاملا "إيهاب خيري"  ورتبته في الميري : "نقيب إيهاب خيري" ، بحرس الجامعة بدمياط ، نقيب إيهاب خيري قائد الحرس بكلية الآداب ، ياااااه ، ذهب إيهاب خيري يوم عيد الشرطة إلى ميدان البوسطة أو إلى مكان قريب على الكورنيش حيث مقر الحزب الناصري ، أو لعله كان هناك في باب الحرس ، لفض المظاهرات ، أو للمشاركة في قمع المظاهرات ، وفي يقينه أنه سيعود لعمله المميز في حرس الجامعة ، لكنه لم يعد أبدا إلى ذلك المكان ، ولم تطأه قدماه منذ ذلك اليوم . وبعد انتخاب عميد جديد للكلية ، سوف تصبح غرفة قائد الحرس مستقرا للأساتذة الرواد الذين لا تسعفهم أرجلهم - وقد تقوست عظامها أو كادت - للصعود إلى الدورين الثاني والثالث بالكلية ، وأما ساكن الغرفة القديم ، قائد الحرس ، فقد ذهب يوم 25 يناير إلى الشارع ، في مهمة شرطية معتادة ، لكنه خرج ولم يعد . 

 

تعليقات القراء