حكايات 2011.. هالة منير بدير تكتب: حكايتي مع الثورة

مواطنة مصرية كملايين غيري يسكنون وطنهم الأم مغتربين على أرضه أو سافروا أو هاجروا ليسَعَوا في بلاد الله إما لكسب علمٍ أو رزقٍ ضاق عليهم فوق تراب بلدهم الغالي ( أم الدنيا مصر ) .. ليس لي حكاية تُمَيِّزُني فهي حكاية كل أسرة تعيش لتربي أولادها وتهتم بمستواهم الدراسي .. رتابة الحياة اليومية من استيقاظٍ فذهابٍ لعمل ثم طعامٍ ثم نومٍ لاستيقاظٍ آخر لصباحٍ جديد .. ولا يكسر جمود الحياة سوى شوْق بعيد المدى لرؤية مصر أحسن فلا يُصَبرني سوى مشاهدة برنامج العاشرة مساءاً لمنى الشاذلي أو آخر كلام ليسري فودة كل ليلة لأواكب ما يجري من أحداث.. وإذا شاهدت سهواً فيلماً فإن ضميري يظل يؤنبني لعدم متابعة ما جرى اليوم ! .. ارتباطي بجدية متابعة كل برنامج يعرض حال البلد ازداد بزيادة هذه البرامج مثل برنامج وائل الإبراشي وأحمد المسلماني وعمرو الليثي وكنت أتحسر كل مرة أجد فيها معاناة أسرة أو بلدة تشتكي إهمال النظام وكنت أستشيط غيظاً عندما أرى إعلاناً يستفز مشاعر الفقراء والمحتاجين أو أن أرى كمية التوسل لمستشفى سرطان الأطفال أو أن أجد عملاً فنياً ساذجاً تكلَّف الملايين في حين أن الملايين يموتون جوعاً وفقراً ومرضاً ..!! .

.

لماذا يكون هذا حال مصر هبة النيل ؟! .. وكان الجواب يتراءى لي عندما أجد فقط أشخاص بعينهم هم الذين يتصدرون كل المشاهد بابتسامة تعلو وجوههم وكأن بلدنا أصبحت عزبتهم الخاصة يشترون ويبيعون فيها ولا يعبأ لهم فِكر بمعاناة الملايين ..

 

كانت الثورة بداخلي ولكن كل علاماتها عليّ كانت دموع تسيل أمام مشهد حقيقي لمسكين يتضور جوعاً ومرضاً في أحد البرامج التليفزيونية أو عند سماع خبر عن مصري اُمتُهِنَت كرامته في بلاد الغربة أو مات حرقاً أو غرقاً في بلده .. وببعض الكلمات المقفاة التي سجلت حزني وشجني لحال الوطن كذكرى للتاريخ ..

 

وببداية ثورة تونس كنت أتساءل : هل ستنجح ؟! .. لم أكن أتوقع نجاحها !! .. وتمنيت حينها أن يحدث هكذا في مصر ولكن مع إحساس مؤكد أنها لن تنجح أبداً !.. فقد كنت أشاهد معاناة الحركات السياسية مثل كفاية و6 أبريل أن من يحاول المعارضة بالطريقة التي تخرج على هوى الحكومة وتتعدى الحد المسموح به فإن من يجرؤ سيكون مآل أمره تشويه السمعة كالبرادعي أو السجن كأيمن نور أو التهديد به كإبراهيم عيسى ..

 

و بشرارة 25 يناير تابعت بفرح يشوبه الخوف والقلق إلى ماذا سَتَئُول ؟! .. حتى جاء يوم 28 يناير ( جمعة الغضب ) وبالفعل لم يكن ورائي غير التنقل بين القنوات الإخبارية خاصة الجزيرة وال BBC و France 24   وأكيد كنت ألقي نظرات عديدة على الفضائية المصرية لأفاجئ بكم التزييف في حق الثورة وكم التشويه للثوار .. ولما رأيت أعداد الشهداء والمصابين تزداد علمت أن الثورة لن تهدأ حتى تطيح فعلاً بالنظام ورأسه ..

 

مشاهد الضرب والسحل التي بدأت منذ يوم 25 حتى يوم 28 يناير لا تفارق بالي .. حتى كِدتُ أجَن لمشاهد المدرعات والسيارات التي تدهس المتظاهرين ..

 

أتابع التلفاز حتى الساعات الأولى من الفجر ولم يكن يهنأ لي النوم فضميري يؤنبني كيف أنام وهناك شهداء ومصابين يسقطون ؟! .. كيف لي أن أنام وإخوتي في العراء في البرد تحت المطر تفترش أجسادهم أرض الميادين لإنقاذ هذا الوطن من عصابة الأربعين حرامي التي حكمته لثلاثين عاماً ؟! .. حتى جاء يوم الدعوة للمليونية الأولى يوم الثلاثاء الذي تلا جمعة الغضب فخفت وتوقعت أنهم سيهاجمون الثوار بضراوة سواء بالشرطة أو ببلطجية وهذا بالفعل ما كان في اليوم التالي يوم الأربعاء.. ظللت أتابع يومها من الظهر حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل وأنا أرى أبناء وطني لا يكلُّون قذف بعضهم بعضاً بالحجارة آسفةً أن يكن هذا مشهدنا أمام العالم متعجبةً لموقف الجيش الذي زحفت بين يديه قطعان الجمال والبغال للهجوم على المعتصمين بالتحرير .. وبدأت علامات الاستفهام ترتسم لدي .. حينها لم يكن ليَرِد على بالي أن الجيش سيأتي يوماً عليه ليتحول من موقف الحياد إلى موقف الصدام بينه وبين الشعب الذي استقبله بالورود والأغاني يوم نزوله للشوارع بعد انسحاب الشرطة المريب وبعد أن عاث أرباب السوابق ومسجلي الخطر بأمن البلد بعد ما فُتِحت لهم أبواب السجون عنوة ...

 

وعذَّبَنا المخلوع ثمانية عشر يوماً ألقى علينا فيها خطاباته العقيمة التي كنا ننتظرها متوقعين في كل مرة أنه سيلقي خطاب التنحي ولكنه من الواضح أنه لم يكن يتابع التلفاز فالشعب يقول : " الشعب يريد إسقاط الرئيس " وهو كل مرة يزيدنا غيظاً وغضباً بخطابه الذي يَعِد فيه بمزيد من الإصلاحات وبمعاقبة المسئولين .. ثمانية عشر يوماً يراها البعض أنها أرحم من الشهور التي عاشتها ليبيا من القتال لتطيح بالقذافي والتي مازالت سوريا واليمن تعانيها لتطيح بمن تمسكوا بالكراسي على حساب دماء البشر .. حتى قالها أردوغان للمخلوع أننا بشر والبشر فانون ..

 

فدعوت الله بموته لأني لم أجد حلاً للخلاص غير حدوث معجزة إلهية تتسبب في إزاحته عن كرسي الحكم فهذا الفرعون المصري لن يَتُب إلا عندما يجد آيةً عظمى لله على أرضه تذكره بوجود رب عزيز قوي .. ولكن الله أراد أن يجعله يقف موقف الذل والهوان خلف القضبان ليكون عبرة لغيره ..

 

كانت كلمات أغنية شادية ( يا حبيبتي يا مصر ) .. وصور الشهداء الأوائل الذين سقطوا مع أغنية ( يا بلادي أنا بحبك يا بلادي ) فاصلي الذي أنفجر فيه بكاءً على وضع لم أكن أرى له نهاية ..

 

حتى جاء يوم الجمعة 11 فبراير لنستمع لعمر سليمان يلقي خطاب التنحي ( التخلي كما عرضه ) وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولا ننسى طريقة نطقه للفظتي ( المُوفق والمستعان ) وبالطبع ( الراجل اللي واقف وراه ) ..

 

وبدأت نسائم الحرية بالاستفتاء على التعديلات الدستورية وجعلت صورتي على الفيس بوك علامة الخطأ الحمراء الكبيرة لرفضي للتعديلات الدستورية فقد أردت من البداية دستوراً جديداً ... .. ثم بدأت الصورة تزداد شحوباً وضبابية بمرور الأيام حتى صدمنا عصام شرف بأدائه الرخيم الضعيف بعد أن بنينا عليه الآمال العريضة وهو ابن الميدان واختيار الثوار ، وبزيادة الاصطدام بالجيش ، والمماطلة في القبض على رموز النظام السابق وتأجيل محاكماتهم ، ومحاكمة المدنيين عسكرياً ،وعدم استرداد أموالنا التي نُهِبت من الداخل حتى نستردها من الخارج ، واستمرار تصدير الغاز لإسرائيل مع استمرار أزمته على المواطن ، وسقوط شهداء ومصابين على يد الجيش ، وفيديوهات القنص والقتل للمتظاهرين ثم يحكم في قضاياها بالبراءة ، ومشاهد الحرق والهدم والصراخ على شاشات التليفزيون أن مصر بتتحرق وبتضيع على أيدي الثوار الذين جَنَوْا لقب البلطجية ..

 

غيظي لتجمع الناس أسبوعياً يوم الجمعة وتعدد المنصات في الميدان وكأننا جعلنا الثورة كرنفالاً أسبوعياً كُلٌ يذهب ليعرض مواهبه في إلقاء الشعر والخطابة والدعاية الانتخابية حتى أفقدنا المليونيات هيبتها ..

 

لن أنسى أبداً كلمات ترددت : عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية .. التي لم تتحقق إلى الآن ..

 

لن أنسى أبداً مشهد كوبري قصر النيل وما فعلته الشرطة بالمتظاهرين أثناء صلاتهم من رش المياه ومن دهس بعربات الأمن المركزي ..

 

لن أنسى أبداً مشهد المصلين الذين كانوا يؤدون الفرض داخل سياج من إخوتهم المسيحيين ..

 

لن أنسى أبداً هتافات قالت : " ارحل يعني امشي " .. " مش هنمشي هوَّ يمشي " ..

 

لن أنسى مشاهد ماسبيرو ومحمد محمود والقصر العيني والشيخ ريحان ومجلس الوزراء ..

 

لن أنسى خالد سعيد وزياد بكير وكريم بنونة وسالي زهران ومينا دانيال والشيخ عماد عفت ..

 

لن أنسى مشاهد السحل والتعرية للفتيات التي حطت من صورة الجيش أمام العالم ومشهد حبيب العادلي وهو يُعظم بالسلام وهو خارج من قاعة المحكمة ..

 

لن أنسى أبداً شبح التوريث الذي زال بزوال جمال مبارك ولكنه يمتثل الآن في شخص المجلس العسكري الذي يباشر سياسات تضاهي سياسات النظام الغابر ..

 

لن أنسى (إزاي ترضيلي حبيبتي ) لمحمد منير ورائعة الأبنودي ( يا ضحكة المساجين ) بصوت علي الحجار ..

 

سأحمل هذا كله في عقلي وقلبي وضميري من عام 2011 لعام 2012 حتى يأتي يوم 25 يناير لتكون الثورة الحقيقة وإن كان سقف المطالب متحرك ليصعد ويهبط فليس هناك من يقدر على إيقافه طالما لم تتحقق أهداف الثورة بعد ..

 

لابد أن تتكاتف جميع القوى الثورية والأحزاب الحقيقية وليس الفلول وكل من اتضح تخليه عن إكمال الثورة طمعاً في مجلس الشعب وكرسي الرئاسة تحت لواء وشعار واحد فإن كان عدم وجود قائد لهذه الثورة من البداية ميزة لتسمى ثورة شعب سيصبح الآن عيب أن نتركها تسير بهتافات أشخاص في الميادين والشوارع ولا يحرسها سوى اللجان الشعبية وعزيمة الثوار وأهالي الشهداء والمصابين ..

 

ثورة مصر لم تشهد الربيع بعد ، ثورة مصر الحقيقية في 25 يناير 2012 ..

 

ارفع راسك فوق إنت مصري .. يسقط يسقط حكم العسكر ..

 

حكايات 2011.. شاركونا حكاياتكم..

تعليقات القراء