أحمد سيف يكتب: ثنائية الشيخ والضابط
لست مندهشا على الإطلاق من حالة التقارب والغزل المتبادل بين التيار الإسلامي والمجلس العسكري، تلك الحالة التي يراها البعض انتهازية سياسة والبعض الآخر تكرارا لأخطاء الماضي القريب وأراها أنا استكمالا لمسيرة طويلة من التحالف بين نظم الحكم الاستبدادية وشيوخ الدين، حالة بدأت مع تأسيس دولة "الملك العضود" على يد معاوية بن أبي سفيان أحد عباقرة السياسة في التاريخ، تلك الدولة التي قامت أساسا على تحالف بين سلطة وراثية استبدادية وطبقة من رجال الدين على اساس المنفعة المتبادلة التي تحقق لكل طرف ما يسعى اليه، فقد أدرك الحكام والملوك أنهم رغم امتلاكهم عناصر القوة المادية من مال ورجال وسلاح فإنهم يحتاجون الى من يمنحهم الشرعية اللازمة لحكم الرعية دون اعتراض منهم ... وهنا جاء دور الشيوخ والفقهاء الذين منحوا للحكام الشرعية المطلوبة وحرموا الخروج عليهم واستخرجوا الأدلة الشرعية التي تدعمهم وتبرر تصرفاتهم وتحميهم من المساءلة ... وفي المقابل فقد سمح الحكام لرجال الدين بالسيطرة على المجتمع وتشكيله وفق رؤيتهم وقناعاتهم وقمعوا معارضيهم وجعلوا منهم طبقة اجتماعية متميزة عن "العوام".
و باستثناءات محدودة في التاريخ الإسلامي - مثل فترتي حكم المأمون والمعتصم التي ساند فيها الحكام اتجاهات فكرية متعارضة مع الفكر السلفي كالمعتزلة - فقد ساد هذا النموذج من التحالف بتنويعات مختلفة، ولكي لا نكون متجنيين على تاريخنا فإن الأمانة تقتضي أن نؤكد أن هذا النموذج ليس اختراعا عربيا ولا إسلاميا ... بل هو النموذج الذي طبق في معظم أنحاء العالم قبلها وحينها، وحتى بعدها، فعلاقة الشيوخ بالسلطان في الدولة السلطانية (التي يطلق عليها تجاوزا الدولة الإسلامية) لا تختلف كثيرا عن علاقة الكهنة بالفرعون في مصر القديمة أو في علاقة الكنيسة بالملوك المسيحيين في العصور الوسطى ... وحتى في العصر الحديث فلدينا النظام السياسي في جارتنا السعودية القائم على تحالف بين آل سعود - القبيلة المتنفذة في نجد - وأتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... تحالف صريح منذ البداية يقوم على أن يكون لآل سعود السلطة السياسية والاقتصادية وأن يكون للوهابيين السلطة الدينية والاجتماعية ... من خلال سيطرتهم على المنابر والإعلام والتعليم والقضاء وحتى الشارع من خلال ذراعهم التنفيذية القمعية الموازية للشرطة المدنية وأعني بها هنا هيئة الأمر بالمعروف.
ويبدوا أن نجاح النموذج السعودي في التحالف بين الحكم الاستبدادي ورجال الدين قد أغرى السلفيين في مصر - وأعني هنا تحديدا ما يسمى بالسلفية العلمية التي تميز نفسها عن السلفية الجهادية العنيفة - بمحاولة تطبيق هذا النموذج في مصر، يضاف الى ذلك التراث الطويل الموثق لديهم لاستخدام تلك الثنائية عبر التاريخ الإسلامي الذي يستلهمون منه مرجعيتهم، فرأيناهم يحاولون التحالف مع نظام مبارك أو على الأقل يتجنبون الصدام معه خلال العقدين الأخيرين، ومن جانبه فقد منحهم النظام السابق حرية واسعة لنشر أفكارهم في المجتمع من خلال المساجد والزوايا وشرائط الكاسيت والقنوات الفضائية ولم يتعرض لشيوخهم إلا نادرا، واستخدمهم بنجاح في سحب التأييد من جماعة الإخوان المسلمين - عدوه الأساسي - وكذلك لضرب القوى المدنية وتنفير الناس منها.
وكما كانت الثورة الفرنسية وانتشار مفاهيم الديموقراطية والحرية والعدالة والتنوير بداية النهاية للتحالف المقدس بين رجال الدين والسلطة الاستبدادية واستبدالها بعلاقة مباشرة بين شعب حر سيد وحاكم يعمل موظفا لدى هذا الشعب مع استبعاد طبقة رجال الدين من المشهد وتفكيك سيطرتها على المجتمع وحصر دورها في الكنائس والأديرة ... أقول كما كان ذلك هو الحال في أوروبا فإن ثورة يناير مثلت عقبة مهمة في سبيل تنفيذ مخطط الدولة السلطانية واستكمال اركانه في مصر ... ومن هنا كان تخوف السلفيين منها ورفضهم لها في البداية باعتراف مشايخهم ... إلا أن انحراف الثورة عن مسارها واستلام العسكريين - عوضا عن الثوار - مقاليد الحكم قد منح السلفيين فرصة ذهبية لاستعادة مشروعهم القديم الجديد ... مشروع الدولة الدينية السلطانية (دولة الخلافة : دولة السلطان مطلق السلطات والرعية التي لا تملك من أمرها شيئا وبينهما طبقة رجال الدين تسوق المجتمع وتمنح شرعية للاستبداد) ... ولذا سارعوا للتحالف مع المجلس العسكري ودعموه بكل طاقتهم وهاجموا كل من ينتقد تراخيه في تنفيذ مطالب الثورة في الدولة المدنية والحرية والعدالة ... بل وطالب بعضهم بأن يظل الجيش أطول مدة في السلطة قطعا للطريق على القوى المدنية وإجهاضا للثورة التي - ولا شك - تتعارض مع مشروعهم.
إن ثنائية الشيخ والضابط هي ثنائية أصيلة وقديمة في تاريخنا الإسلامي وليست عرضا طارئا للأوضاع السياسية التي يمر بها وطننا الآن ... وإن قبولنا بأحد طرفي هذه الثنائية يعني تلقائيا قبولنا بالطرف الآخر فهما صنوان لا ينفصلان ... فالضابط يريد شيخا يمنحه الشرعية والشيخ يريد ضابطا يمكنه من المجتمع ويقمع خصومه الفكريين ... ولا سبيل لكسر هذه الحلقة الجهنمية سوى بالإصرار على مدنية الدولة ... مدنيه بمعنى أن لا تكون عسكرية أو دينية ... ولن يتأتى ذلك سوى باستكمال الثورة حتى تحقيق أهدافها كاملة.