أحمد عبد الجواد يكتب: بين الحاكم والمحكوم (2) صناعة الأمة
صناعة الأمة
(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)
من الثوابت الكونية فى عالمنا فكرة الاختلاف، فمع تغير طباع البشر وأفكارهم واتجاهاتهم يختلف الناس، يختلفون فى الدين الواحد وفى المجتمع الواحد، بل فى الأسرة الواحدة.
السؤال الآن هل الاختلاف بين البشر مفهوم سلبى أم إيجابى؟ لعل الحديث عن التعاملات المختلفة بين البشر لا تعطى نتيجة قاطعة، لأننا لا نتحدث عن ثابت محدد الملامح، بل متغير مستمر تتشكل ملامحه من فترة لأخرى، ومن مكان لآخر، لكن ما نستطيع قوله بشكل شبه عام أن الاختلاف قضية قديمة فى تاريخنا العربى، فلقد ورثنا العديد من أشكال الاختلاف فى تاريخنا الإسلامى.
ورثنا اختلاف الصحابة مع رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – فى أوقات الحروب والسلم، ورثنا اختلاف الصحابة مع بعضهم البعض فى سنوات الخلافة الأولى، وهى أشكال مهذبة من الاختلاف تظهر لنا أن اختلافهم شد من أزر المجتمع وقوته، مثل ما حدث فى سقيفة بنى ساعدة وانتصار الأنصار لسعد بن عبادة، وانتصار المهاجرين لأبى بكر الصديق، بل وصل الأمر إلى أن قال قائل أمير منّا وأمير منكم، يعنى أمير على الأنصار وأمير على المهاجرين، هنا نجد الصديق أبى بكر يأخذ بيدى أبى عبيد الله بن الجراح وعمر بن الخطاب وقال قد رضيت لكم احد هذين الرجلين، وكثر اللغط بين الناسن حتى قال عمر ابسط يدك يا أبا بكر فبايعه، واتفق الناس على المبايعة.
الحكاية التاريخية السابقة تؤكد لنا باختصار أن الاختلاف الذى حدث بين الصحابة فى بداية تأسيس أول دولة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم احتاجت إلى اجتماع الأمة على فكرة واحدة أو شخص واحد، حتى لو اختلفت، فهذا ما نجى بداية الدولة أن اتفق الناس على أبى بكر، مع الوضع فى الاعتبار أن أبا بكر هو الذى قال رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فقد ضحى ببساطة بفكرة الزعامة حتى ينجو بالأمة.
لنا أن نقف هنا عند فكرة التضحية لتعلو الأمة أو لا تتفتت، ليظل نسيجها مترابطًا، إن احتياج أى أمة لفكرة التضحية عند الاختلاف مثل احتياج الجسد للطعام والشراب، وهو أمر افتقدناه فى المرحلة السابقة من النخبة أو من مرشحى الرئاسة، فقد بخلوا بالتضحية وتكوين جبهة موحدة، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، السؤال الذى يشغلنى فى هذه المرحلة هل الاختلاف يصنع أمة قوية؟
كما نقول ونعود ونكرر كلامنا مرارًا الوعى هو الأساس الذى يجب أن تبنى عليه الأمة، لقد وعى الصحابة فى سقيفة بنى ساعدة أنهم على محك هدم الدولة الإسلامية، فاتفقوا على وجوب الاختيار والاتفاق على هذا الاختيار، بعيدًا عن الاختلافات الطبيعية والجغرافية والاقتصادية بين مكة والمدينة، بل وبعيدًا عن تصنيف المجتمع إلى مهاجرين وأنصار، لقد تذكر الأنصار فى هذه اللحظة قول الرسول الكريم - حين عاد المهاجرون بالغنائم واثر ذلك فى الأنصار – " أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون أنتم برسول الله إلى رحالكم" لقد عرف الأنصار أن اختيارهم للرسول سيفرق فى لحظة ما وكانت هذه اللحظة فى سقيفة بنى ساعدة.
إذن كان هناك وعى باللحظة ووعى بالمرحلة ووعى بالمجتمع وبتقسيماته ووعى بالمشترك فيما بينهم فى اللغة والمعتقد والاتجاه العام لمصلحة الدولة الإسلامية، وما حدث أن هذا الوعى هو الذى أنتج الحاكم أبى بكر الصديق والمحكومين من الصحابة، وأنتج أمة تستطيع أن تعى ظروفها جيدًا فاستطاعت أن تنصهر لتصنع نسيجًا واحدًا، لقد أنتج اختلاف سقيفة بنى ساعدة أمة واعية بذاكرتها فلم يصبح الأمر قاصرًا على اختلاف بين المهاجرين والأنصار بل تعلق فى الذاكرة الجمعية للأمة كلها بعد ذلك، ذاكرة حددت أن السقيفة لحظة تاريخية فاصلة استطاعة (الأمة) من خلالها إعادة بناء الدولة الجديدة وتخطى عقبتها، فهل سينتج اختلافنا مثل هذا الوعى؟