أيمن مسعود يكتب: الجزية

قال الله تعالى فى سورة التوبة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (29).
وللأسف فإن الكثيرين يفهمون أن الآية الكريمة تفرض الجزية مطلقًا على أهل الكتاب!! والحقيقة أن هذا الفهم قديم إلى حد بعيد، وللأسف أيضًا فإن بعض ولاة الأمر على الأمصار قدموا الجزية على الإسلام وأخذوها ممن أسلم من أهل الكتاب!! حتى أن كثيرين من أهل الكتاب دخلوا الإسلام بعد أن رأوا عدل عمر بن عبد العزيز فأرسل إليه عامله على مصر حيان بن شريح يشكو نقص الجزية ويطالبه بأخذها ممن أسلم، فرد عليه عمر بن عبد العزيز: "أما بعد، فإن الله قد بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه جابيًا". انظر كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد.
إذن فهذا التطرف فى النظر إلى الأمور من البعض لا يُحمل بالضرورة على الدين بالكامل، فالجزية فى تعريفها اسم لما يعطيه المعاهد على عهده. كما قال ابن الأنبارى، وقال أبو حيان: سميت جزية من جزى يجزى إذا كافأ عما أسدى إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما مُنِحُوا من الأمن.
أما عن إسقاط الجزية فانظروا فى كتاب "هذا هو الإسلام" للدكتور مصطفى السباعى، وكتاب "فتوح البلدان" للبلاذرى لتجدوا أن "أبا عبيدة رضى الله عنه أسقط الجزية عن أهل السامرة بالأردن وفلسطين، وأن عمر رضى الله عنه أسقط الجزية عن ملك شهربراز وجماعته لقاء اتفاقه معهم على قتال العدو، وأن معاوية أسقطها عن سكان أرمينية ثلاث سنوات.. وأنه قد جاء فى عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: "إنى عاهدتكم على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم".. ولذلك رد خالد بن الوليد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القادة المسلمين على أهل المدن الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية حين اضطر المسلمون إلى مغادرتها قبل معركة اليرموك، لأن الجزية أخذت منهم على المنعة والحماية فإذا لم تتحقق ردت الأموال".
هذا بالإضافة إلى ما فرضه عمر بن الخطاب لبعض أهل الكتاب من بيت مال المسلمين نظير فقرهم، فلو كان الأمر بهدف الإذلال فقد تحقق فى القصة التالية (انظر كتاب الخراج لأبى يوسف): مر عمر بباب قوم وعليه سائل، شيخ كبير ضرير البصر، يسأل، فضرب عضده من خلفه, وقال: من أى أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودى، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن. قال : فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشىء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم". أما الصَّغار المذكور فى الآية فإنه بمعنى الخضوع وليس الذلة والمهانة وقد ذكر الشافعى -رحمه الله- فى قوله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}: أى يجرى عليهم حكم المسلمين". هذا ما جاء فى لسان العرب.
القضية إذن هى العدل، وليست المتاجرة أو الفوقية، فالإسلام يجعل العبد مشغولاً أكثر شغله بعلاقته هو بربه، وليس بنوايا الآخرين وإذلالهم، وليس من العدل أن يحارب أهل الكتاب فى جيش يدافع عن فكرة وعقيدة ودين لا يؤمنون هم به، فأوجب عليهم الجزية بديلاً عن مشاركتهم فى الدفاع عن حدود يعيشون فى أمنها وكنفها.. أما إذا كان الجيش يدافع عن أرض هم جزء منها وعليهم ما على الجميع من واجبات فقد سقط الهدف والمرجع كما أسقطه خالد بن الوليد عمن تطوع فى جيش المسلمين من أهل الكتاب.
فى النهاية: الآية الكريمة لم تفرض الجزية، ولكنها فرضت القتال!! والقتال ليس كالقتل، فالقتال يكون بين متكافئين (جيشين) متواجهين يحمل كل منهما السلاح ويحتل كل منهما مساحة من الأرض يتنافسان عليها!! وأمر القتال جاء عامًّا فى المشركين، ومشروطًا فى أهل الكتاب بثلاثة شروط:
- الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ.
- وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
- وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ.
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"
وقوله تعالى "من الذين أوتوا الكتاب" يعنى أن منهم من لا ينطبق عليه هذه الشروط، وإلا كان أورد الأمر بقتال أهل الكتاب دون تفصيل.
الجزية عهد مرتبط بالفتوحات والجهاد، ولذلك فهى ثالث خيارين: "الإسلام أو القتل"، وهذا ما لا ينطبق فى وقت السلم على كثير من آيات القرآن: "لا إكراه فى الدين"، و"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، و"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم..." و"ليس عليك هداهم"...
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

تعليقات القراء