محمد هشام عبيه يكتب: ألف ثورة وثورة
لأنها المرة الأولى التي أسلم له فيها رأسي، كان طبيعيا جدا أن يستولي "عم جمال" على أذني كأي حلاق مخلص للثرثرة و"الرغي"، مستسلما لشهوة الكلام في مزيج غرائبي من آخر الأخبار السياسية والرياضية والفنية والدينية، فلما ظهر القاضي المستشار هشام البسطويسي على شاشة التليفزيون الذي يحتل ركنا مميزا في المحل، هتف عم فهيم قائلا " كده كملت. رئيس أصلع.. ونواب بدقون.. الحلاقين يهاجروا بقى"!.
ابتسمت لجرأة الدعابة وذكاءها، وهممت أن أخبره بأن قاضينا الشريف هذا، لايزال مرشحا رئاسيا محتملا وليس رسميا بعد، وأن احتمالات فوزه بالمنصب الكبير ربما تكون محدودة لاعتبارات عدة، لكنه لم يعطني الفرصة لذلك لأنه أضاف قائلا بأنه لايحب "ناس الحرية والعدالة والإخوان"، معتبرا أنهم لن يختلفوا كثيرا عن أعضاء الحزب الوطني المنحل، مضيفا في حسم "الكرسي قلاب"، ثم صمت دون أن يوضح هل يُقلّب الكرسي النفوس، أم أن الكرسي نفسه قلاب لايستقر عليه أحد أبدا، أم لعله يجمع بين الصفتين معا؟
وعلى الرغم من أن عم جمال عبر عن رأيه هذا، وهو قابع في محل عمله الذي يبعد نحو 45 كيلو مترا عن ميدان التحرير، إلا أن ما قاله- حتى لو رأه البعض مرسلا مستندا لأحاسيسه فحسب-، بدا شديد الصلة بذلك الرسم الجرافيتي الذي يحتل جدارا ضخما في قلب الميدان، وفيه يظهر الرئيس السابق مبارك بنصف وجه، فيما يكمل النصف الأخر، نصف وجه للمشير طنطاوي، وقد بدا على ملامح الاثنين تقاربا وتطابقا لافتا صنعته يد فنان عبقري مجهول، لم يكتف فقط بما تنطق به الخطوط الجريئة، وإنما كتب أسفل ذلك الوجه المزدوج، عبارة جامعة وملخصة، خرجت عفوية من بين جموع المصريين وقت اشتداد الأزمة بين الثوار وقيادات الجيش بأنه "اللي كلف ما متش"، في إشارة لاتحتمل اللبس بأن هذا امتداد لذاك.
يمكن أن نزيد على ذلك أيضا، بالقول بأن ما فات يرتبط ارتباطا وثيقا، بتلك المجاهرة الشجاعة التي قامت الفتاة الصعيدية الجدعة "سميرة إبراهيم"، عندما صرخت بأنها وأخريات تعرضن لكشف عذرية على يد جنود وضباط بالقوات المسلحة، صحيح أن سميرة خسرت القضية بحكم منسوب للقضاء العسكري، فبدا وكأنها تواجه الخصم والحكم في جولة واحدة، إلا أن المهم في الأمر هو أنها لم تمتلك فقط شجاعة كسر أحد أشد تابوهات المجتمع صلابة فيما يتعلق بالحديث عن عذرية المرأة، وإنماأنها أيضا امتلك شجاعة مواجهة الحاكم في ذروة سطوته وجبروته، وهذا هو نفسه ما ينطبق على عم جمال الحلاق ورسام الجرافيك المجهول.
فسخرية الحلاق من نواب الذقون، وتحفظه على أدائهم، وتوقعه لفساد بعضهم، يأتي وهم يشكلون أغلبية برلمانية، مع توقعات بتشكيل أول حكومة قادمة، أي أنهم جزء أصيل من السلطة، والأمر لا يقف عند هذا فحسب، بل أن هؤلاء تحديدا يتدثرون بغطاء ديني يمنحهم حصانة تفوق أي حصانة برلمانية، باعتبارهم "بتوع ربنا"، فإذا بهم رغم كل هذه التحصينات معرضين لسخرية وانتقاد من مواطن بسيط، لايعبر عن نفسه فحسب بل يعبر عن فكر يسري بين المصريين بعد قيامهم بثورة 25 يناير، ويتعلق بنزع القدسية عن أهل السلطة، حتى أولئك الذين وصلوها عبر دعاية دينية.
أما "الوجه المزدوج" لمبارك وطنطاوي، فيطول بالنقد المباشر العلني- والمبدع في ذات الوقت- ليس رأس السلطة الأكبر في مصر بعد الثورة فقط، وإنما يهدم في ذات الوقت حوائط خرسانية ممتدة لأعلى السماء، صنعت من "العسكر" قامات غير قابلة للنقد والسخرية عبر سنوات امتدت منذ عام 1952 حينما وصل ضباط الجيش إلى السلطة، بل وحتى في الشهور الأولى من نقل مبارك السلطة لهم عقب إزاحته من منصب.
ربما يظل المصريون بحاجة إلى سنوات عديدة ليحسموا حسابات المكسب والخسارة فيما حدث عقب الثورة لكن الأكيد والذي لا يحتاج إلى سنوات لحسابه، هو أن النصر الأكبر لخروج الملايين في الشوارع يوم 25 يناير 2011 وما بعده هاتفة بإسقاط النظام، هو التخلص من جينات "الخوف من السلطة"، أي سلطة.. سواء كانت سلطة حاكم أو عسكر أو مجتمع أو متدثرين بالدين، ولو كان هذا هو الإنجاز الوحيد لكفى به لبعث ونجاح ألف ثورة وثورة.