عصام على كان حيا منذ أيام قليلة.. لكنه فقد حياته ثمنا لشريحة هاتف محمول رأى سجانوه أنه لا يستحقها.. ادعى أحد السجناء الآخرين أنها لم تكن شريحة هاتف محمول وإنما مخدرات.. لكن مقابل هذا السجين الذى شهد بأنه يتناول المخدرات هناك آخرون، سجناء أيضا، اتصلوا بأهله، معرضين أنفسهم لنفس مصير عصام لو تم اكتشافهم، ليخبروهم بأن عصام يتعرض للتعذيب بخراطيم مياه تدخل من فمه ومن دبره.. عصام نفسه حاول الاستنجاد بأخيه قبل أن يموت بيوم.. فى اليوم التالى نقل عصام بواسطة ضابط اسمه بيتر إبراهيم إلى قسم السموم بكلية طب قصر العينى.. لماذا السموم؟ وما طبيعة ذلك السائل الذى يقول زملاؤه إنهم كانوا يملؤون جسده به؟ لا نعلم بعد. لكن ما نعلمه أن عصام حُرم حياته وأحلامه ومستقبله وهو فى عامه الثالث والعشرين.. ما أعلمه أيضا أن مصلحة الطب الشرعى لم تكن متعاونة، ولم تكن مجهزة، وأنها تعاملت مع أهل عصام بأسلوب أقرب إلى أمن الدولة منه إلى الأطباء. ما أعلمه أيضا أن هذه اللفافة التى قيل لى إنها أُخرجت من معدة عصام، اللفافة التى يريدون أن يقنعونا أنها تسببت فى قتله، لم تخرج من معدة تفرز عصارات معدية حمضية، بل كانت لفافة أقرب ما يمكن أن نصفها به أنها لفافة نظيفة إلا من بضع قطرات دم، كتلك التى قد تنتج عن شكة دبوس.
ما أعلمه أيضا أنه لا عزاء فى عصام علِى إلى أن تأخذ العدالة مجراها.. وأكاد أوقن أنها لن تأخذ مجراها دون تطهير كل ما قامت الثورة لتطهيره.. الشرطة، النيابة، الطب الشرعى والجيش الذى يحكم البلاد.
أخيرا أنا لم أحضر تشريح المرحوم عصام على، بل رأيته بعد انتهاء التشريح. أيضا بين كل وسائل الإعلام التى تحدثت معها، أؤكد أنه لم يكن من بينها «اليوم السابع» وأننى لم أعط لهم أى تصريحات. هذه شهادتى على ما حدث منذ الأمس إلى اليوم، بداية من اتصال شقيق الفقيد وانتهاء بالخروج من المشرحة، بعد أن سمح لنا بالدخول مع والده ومحاميه، أتحمل مسؤوليتها كاملة وعلى استعداد للمواجهة مع كل من ورد اسمه فيها.
27 أكتوبر 2011
اتصل بى شقيق المرحوم واسمه محمد على ليخبرنى أن شقيقه كان فى سجن طرة شديد الحراسة تنفيذا لحكم محاكمة عسكرية بالسجن لمدة سنتين. وقال لى إنه وصله من زملاء عصام فى السجن أن عصام قد نقل إلى مستشفى قصر العينى، بعد أن تعرض للتعذيب على مدى يومين. وقال إن والدة عصام زارته يوم الأربعاء فى السجن وهرّبت له شريحة موبايل ليتمكن من الاتصال بها وطمأنتها على أحواله، وأن سجينا آخر، كان المرحوم قد استلف منه خمسة جنيهات وعجز عن تسديدها، رآه يأخذ الشريحة فأخبر الضابط المسؤول أن والدة عصام هربت له مخدرات. وأن زملاء عصام فى السجن أخبروا أخاه أنه منذ ذلك الوقت يتعرض عصام للتعذيب والضرب، وإدخال خرطوم مياه من فمه ومن «ورا»، وأنه نقل إلى مستشفى قصر العينى وأن والدته سبقته إلى هناك وأنه فى الطريق إليها. وأخبرته أننى سوف أتصل بالمحامين ليلحقوا به هناك ويتابعوا معه الأمر.
وقد اتصلت فعلا بعدد من المحامين ونشرت على صفحتى على «الفيسبوك» وعلى صفحة «النديم» على «التويتر» طلب محامين أن يتوجهوا لدعم الأستاذ محمد على، وتركت رقم هاتفى للاتصال بى فى حال استعدادهم، وقد اتصل بى عدد من المحامين وأبدوا استعدادهم للذهاب إلى مستشفى قصر العينى، أتذكر منهم الأستاذ مالك عدلى من مركز «هشام مبارك»، والأستاذ سيد فتحى من رابطة «الهلالى»، ومحامى مؤسسة «حرية الفكر والتعبير»، ومحاميا آخر لا أتذكر اسمه عرف نفسه أنه من مجلس نقابة المحامين، كما اتصل بى الأستاذ خالد البلشى ووعد بإرسال صحفى إلى هناك. فى أثناء هذه المكالمات اتصل بى شقيق المرحوم عصام على مرة أخرى، وهو يصرخ على الهاتف بأن والدته اتصلت به وأنها وجدت ابنها فى المشرحة.. وكان الأستاذ محمد على يبكى ويلوم نفسه على وفاة شقيقه، لأن شقيقه أخبره فى اليوم السابق أنه يتعرض للتعذيب وطلب منه تقديم بلاغ للنائب العام، لكن الأستاذ محمد قال له إن ذلك قد يتسبب له فى متاعب.
بعدها بقليل علمت أن تقرير مستشفى قصر العينى المبدئى أفاد بأن عصام توفى نتيجة هبوط حاد فى الدورة الدموية بسبب نزيف دموى حاد، وأن النيابة تريد الاكتفاء بالكشف الظاهرى، وأن المحامين تقدموا ببلاغ إلى النائب العام من أجل تحويله إلى الطب الشرعى.
28 أكتوبر فى زينهم
فى الطريق إلى المشرحة اتصلت بأحد الأصدقاء فأكد لى المصدر أن التشريح توقف، لأن هيئة من كبار الأطباء الشرعيين سوف تتجه إلى المشرحة للقيام بالتشريح، وبالتالى يجب أن نطمئن إلى أن التقرير سوف يتم كما يجب.
وصلت متأخرة إلى مشرحة زينهم. رأيت الأخ منهارا أمام باب المشرحة. الأب حاول الدخول بعد أن شعر الأخ أنه لا يتحمل الموقف. رُفض طلب الأب. قيل لنا إن هناك طبيبين من أطباء التحرير بالداخل، وبعد قليل خرج أحدهم د. محمد وقال إن الدكتور أحمد عصام باق بالداخل. الأب والابن وافقا على تفويضى للدخول نيابة عنهم، لكن الطلب قوبل بالرفض. كانت محاولات التواصل مع من هم داخل المشرحة تحدث من خلال الطرق على الباب، ومن خلال شباك وقف وراءه شابان وسيدة، رفضوا دخول أى شخص. ثم اتضح بعد ذلك أن أحد الشابين كان هو الدكتور أحمد عصام، من أطباء التحرير المفترض أنه موجود بالمشرحة ليلاحظ عملية التشريح، وقيل لى من الدكتور محمد إن لديه خبرة لأنه كان ضابطا فى الجيش. علمت أيضا من المتجمعين أمام المشرحة أن ضابطا برتبة عقيد دخل إلى المشرحة، وأن مركز «هشام مبارك للقانون» أرسل برقية إلى النائب العام بهذا الشأن، حيث إنه لا يجوز وجود الشرطة فى أثناء القيام بفحص الطب الشرعى. فى هذه الأثناء حاولت الاتصال بأصدقاء لى لتسهيل دخولنا إلى المشرحة للتأكد من سير الإجراءات، خصوصا أن قرار النيابة كان ينص على أخذ عينة من الأحشاء لإثبات وجود مخدرات من عدمه، على حين تتجه الشكوك إلى أن عصام مات نتيجة نزيف داخلى. وقيل لى إن هناك أوامر عليا بعدم دخول أى شخص، هذا المصدر لن يعلن عنه تحت أى ظرف من الظروف. انتظرنا أمام المشرحة وجاء الدكتور محمد ليعطينى الهاتف لأتحدث مع الدكتور أحمد عصام من أطباء التحرير، وكنت على وشك أن أطلب منه أن يتأكد من أن التشريح شامل، وأنه يتناول أيضا الفحص بحثا عن إمكانية وجود نزيف داخلى. لكن فى نصف المكالمة سمعت صوت امرأة تزعق فيه بأن يغلق التليفون، وانقطع الخط فعلا. بعد نحو ساعة من الوقوف علمنا أن التشريح قد انتهى، وأنه بإمكان الوالد والمحامى وأنا أن ندخل إلى المشرحة. حاول الخال أن يدخل أيضا وقد سُمح له بذلك بعد بعض الشد والجذب على أساس أنه فى مجال التمريض. عند فتح باب المشرحة دخلنا وإذا بشاب، هو نفسه الذى كان يقف بجوار طبيب التحرير يمد ذراعه ليمنعنى من الدخول. لم يكن يرتدى البالطو الطبى وتطاول علىّ بالسب، وأخبرتنى السيدة المرافقة له بعد سؤالها أن اسمه الدكتور عمرو محمود، من أطباء الطب الشرعى. أما السيدة نفسها فقد عرفت نفسها بأنها الدكتورة سعاد عبد الغفار، مديرة التشريح، وهى ذات السيدة التى كانت واقفة فى الشباك وتصرخ فى المحامين والأهل بأن الدخول ممنوع.
وقفت الدكتورة سعاد فى ممر المشرحة تحقق مع والد عصام عن كيفية دخوله السجن والحكم وسبب الحكم عليه وتطورات الأحداث. قلت لها إنه إذا كنا بصدد تحقيق فلندخل إلى غرفة ونبدأ فى تحقيق «س وج» وإن أى شىء غير ذلك ليس من حقها. لكنها صممت وقالت بالحرف الواحد «من حقى، وأنا أحتفظ بالمعلومات هنا»، وأشارت إلى رأسها. بعد استجواب والد عصام قالت تطمئننا إن تقرير العينة الحشوية سوف يصدر قريبا، ولما سألتها لماذا لن يصدر تقرير عن التشريح الكامل؟ قالت بالطبع سوف يصدر. وقد حاول الدكتور عمرو محمود مرة أخرى أن يتدخل فى الحديث لكننى رفضت وساعدت هى كذلك فى إسكاته. ثم سألتنى إذا كنت أتحمل رؤية المرحوم، فرددت بالإيجاب.
فى المشرحة
هذا المكان الذى دخلت إليه لا يمكن أن يمُت إلى الطب بصلة. حجرة بها سريران ألمنيوم، دماء على الأرض وعلى السريرين. المرحوم عصام مفتوح صدره وبطنه مكشوف تماما، باستثناء ورقة كلينكس صغيرة موضوعة فوق عورته. مخه على رف جانب السرير المعدنى، وأعضاء أخرى لم أتبينها دون فورمالين، ودون تلاجة. عرضت علىّ الدكتورة سعاد ما قالت إنه حنجرة عصام وبلعومه وفردتهما أمامى ثم فردت اللسان والجزء العلوى من المرىء، وكلها كانت خارج الجسد لتثبت لى إنه لا توجد أى جروح نافذة فى أى منها. قلت لها تعلمين أن نزيفا داخليا قد يصدر عن جروح لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فقالت لى لذلك أخذنا عينات وسوف نحللها غدا كما سوف نستخدم الميكروسكوب غدا، لأن اليوم الجمعة إجازة. ثم أشارت إلى الأمعاء الدقيقة المكشوفة فى جسد عصام وقالت لى بالحرف الواحد «إذا كنت عاوزة تدورى بنفسك اتفضلى». وأكدت لى أنه لا يوجد نزيف من أى نوع، فأكدت لها مرة أخرى أنها لا يمكن أن تقرر ذلك بالكشف بالعين المجردة فقط، وأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإمكانات فأكدت أن ذلك سوف يحدث غدا.
اللفافة
ثم طلبت الدكتورة سعاد من شخص ما فى الحجرة أن يعرض علىّ العينات التى أخرجوها من جسد عصام، فجاء بعدد 2 برطمان أبيض بغطاء أحمر. الأول به شىء ما لم أتمكن من رؤيته. أما البرطمان الثانى فقد قلبه الرجل فى يده وأخرج منه لفافة طولها نحو 5 أو 6 سم، بيضاء ملفوفة بخيوط سوداء عليها بضع قطرات قليلة من الدم، وقالت أخرجنا هذه اللفافة من معدته وسوف نرسلها للتحليل غدا.
لفافة؟ أيوه لفافة! هكذا أكدت حين بدا علىّ الذهول من استخدام نفس المصطلح الذى استُخدم فى قضية خالد سعيد. عند تأكيدها مسألة اللفافة خرجت من حجرة المشرحة إلى باب المشرحة الرئيسى، فحاول الدكتور عمرو محمود منعى مرة أخرى، وصرخ فى الحرس بأن لا يسمحوا لأحد بالخروج. فما كان منى إلا أن طرقت بعنف على الباب من الداخل إلى أن اضطروا إلى أن يسمحوا لى بالخروج.