«جريدة الصباح» تكشف في تحقيق استقصائي.. رحلة المناديل من مصانع «بير السلم إلي المواطن»

 

جريدة الصباح - هيثم السيوفي وآيات خيري
 

 

مناديل "رينيه" ملك للجميع .. والشعب هو صاحبها

مخترع "رينيه" : انتظرونى في اختراع جديد

عمل بإسم مستعار لمدة "عامين" .. والتموين "مكبر دماغه"

** وزير الصحة السابق : "رينيه" تستخدم ألوان صناعية تسبب حساسية الصدر و حماية المستهلك "ودن من طين" وآخرى من "عجين"

 
 
"المصرى" مواطن برتبة عبقرى، الوحيد الذي أثبت أن الزيت من الممكن أن يختلط بالماء، وأن الرمال من الممكن أن تتحول طينا فى يوم من الأيام - إذا أراد هو ذلك - وأن الضغوط التى تدفع مواطن لتحريف اسم منتج لشركة ما، ليتخذه ستارا، يبيع من ورائه ويحصل على مبالغ طائلة، هى نفس الضغوط التى دفعت الشعب كله لتصديق هذا المنتج والتهافت على شرائه نظرا لضاّلة سعره. 
 
بدأت القصة بعبوة مناديل مشوهة تباع تحت الأرض بإحدى محطات المترو، تسمى "رينيه" ، لفتت الأنظار إليها لتشابهها كثيرا مع اسم شركة شهيرة لصناعة المناديل تدعى "زينة" فما تم هنا هو إزالة النقطة من فوق حرف الـ"ز" ليصبح "ر" لنجد أنفسنا في النهاية أمام منتج جديد يغزو الأسواق وهو " رينيه" وكأنها حصلت على حريتها لتتحرك كما تريد، وتعلن عن ميلاد منتج جديد يشعل سوق صناعة المناديل فى مصر.
 
فى منطقة اختلط فيها العمران بالصحراء، والمصانع بالرمال سميت "بسوس" وللوهلة الأولى يضعنا القدر أمام رجل تداخل جلبابه بين جنبات جسده من شدة البدانة، بدت الريبة والشك على ملامحه من بعيد لدرجة جعلته لا يريد الحديث معنا كثيرا، إنه "المعلم" ( أ.ه ) صاحب مصنع التوحيد للمنتجات الورقية، تعلق على صدره سلسلة تصارع بداخلها مفاتيح كثيرة، وأمامه دفتر تتزايد فيه الأرقام سطر تلو الأخر، يلتف حوله صبيانه الذين لم تتجاوز أعمارهم العقد الثانى بعد، يحملون على اكتافهم كميات ضخمة من المناديل ذهابا وإيابا من وإلى المصنع، لم يفصح سوى عن جمل معدودة عانده لسانه فى نطقها وهى "مفيش مصانع مناديل هنا، معرفش حاجة وأنا مش فاضى" أغلق بعدها أذنيه عن الإستماع لنا، وعيناه عن رؤيتنا تماما، وكأنه يحاول الإفاقة من حلم لا يريد إكماله بعد.
 

"بطة وعادل" مرشدا الطريق

إبتسامة غير مبررة، على وجه فتاة حاول عمرها الاقتراب من العشرين، لكنه لم يستطع بعد، تقول "هنا مفيش مصانع مناديل ولا حاجة، ثم يسعفها إصبعها بالإشارة إلى رجل يقف بمنتصف الشارع، وهى تقول "اسألوا عم عادل اللي واقف هناك ده ، هو هيدلكوا على اللى انتوا عاوزينه" ثم تغادر بطة المكان مصطحبة معها إبتسامتها، ونصطحب نحن أقدامنا متجهين نحو عادل كما أوصتنا بطة.
 
وللوهلة الأولى، نجد رجل تضخمت ملامح وجهه دون داعى، أجش الصوت، طويل القامة، عريض المنكبين، وبمجرد الدخول إلى مصنعه الذى لا يزيد عن وصفه كمخزن، تزاحمت فيه عبوات المناديل كثيرا، ولكنها عبوات بيضاء غير مدون عليها اسم شركة بعينها، يبدأ عادل فى وصف المكان قائلا " المناديل بتيجى فى صورة رولات كبيرة فرز تانى بأسعار رخيصة من الشركات الكبيرة مثل شركات (ف.ف) وإحنا بنقطعها بنفسنا، فى الوقت ذاته وقعت أعيننا على "القطر اليدوى" الذى يستخدمه عادل لتقطيع الرول الكبير إلى مناديل صغيرة، ثم ينتقل إلى تعبئتها يدوياً، وبيعها بالكيلو لجميع الأغراض، مع الأخذ فى الاعتبار أن صنف المناديل نوعان أما الأول منها فهو الناعم ، وأما الثاني فهو النوع الخشن، والفرق بينهما فى السعر طفيف جدا، وفى لحظة عابرة تسلل فيها الخوف الى قلب عادل بشأننا، رفض أن يذكر عناوين الشركات أو المصانع التى يتعامل معها، ولكنه ألقى لنا بطرف خيط ساعدنا كثيرا فى الوصول للحقيقة، فقال "اسألوا بيبو، أكيد هتلاقوا عندوا اللى بتدوروا عليه".
 

مخترع أكذوبة "رينيه"

وبعد عناء البحث فى منطقة الرمال الصناعية وجدنا ضالتنا التى تعبنا فى البحث عنها، محل اتسعت أبوابه على مصرعيها يدعى "بيبو" فى مقدمته رجُلان، لحظات معدودة وظهر الرجل الثالث - المخترع – تبادلنا سوياً أطراف الحديث إلى أن علمت  أن مناديل "رينيه" ملك للجميع، ولا توجد شركة واحدة تحتكر هذا الاسم تماما، فمعظم محلات المناديل البسيطة تلجأ إلى طباعة أكياس تحمل اسم "رينيه" نظرا لإقتراب الإسم من المناديل الشهيرة "زينة" مما يزيد من كميات البيع لديهم.
 
لم يكن هذا كل شيء، فالمفاجأة الكبرى لم تأتى بعد، وهى ما علمناه بعد حوالى نصف الساعة من حديثنا مع (و.م) صاحب المحل، وهى أنه هو مخترع أكذوبة "رينيه" وهو أول من فكر فى تصميم غلاف يحمل هذا الإسم بالإتفاق مع مطبعة فى العبور لطباعة هذه الأغلفة دون أن تكتب عليها أى عنوان أو وسيلة اتصال بشركة رينيه المزعومة، وذلك منذ اكثر من عامين، ونجحت اللعبة بالفعل، وكسب من ورائها كثيرا من الأموال، ففى بداية إطلاقها كان من الممكن أن يبيع 2طن فى اليوم، أما الأن فتصل الكمية التى تباع يوميا إلى 200 كيلوجرام يوميا، فتباع البالة بها 30 كيس بسعر 25 جنية فقط، ويرى (و.م) أن نسبة بيع "رينيه" تراجعت هذه الأيام بسبب نقل هذه الفكرة إلى محلات أخرى، الأمر الذى اضطرهم إلى رفع عدد العبوات المباعة وبيعها بنفس الثمن، فبدلا من أن كانت 3 عبوات ب 10 جنية، أصبحت الأن 4 أو 5 عبوت ب 10 جنية، مما اضطر أصحاب المحلات إلى تقليص عدد المناديل داخل الكيس الواحد، ليستطيعوا سد العجز وتعويض الخسارة، لتتحول رينيه إلى أكبر الأسماء تواجداً فى عالم المناديل، ولكنه تواجد وهمى لم يكن موجود من الأساس، فـ"رينيه" تختلف فى خامتها من بائع لاّخر، وفقا لجودة الخامة التى يضعها داخل الأكياس.
 
ويستطرد بيبو فى الحديث قائلا : " فكرت فى الفكرة دى نظرا لإرتفاع سعر التراخيص، عشان كده مقدرتش اسجل اختراعى، وكمان فى سريحة كتيير بتطبع الغلاف وتملاه مناديل وتبيعه بدون أى أزمة، ولغاية دلوقتى مجاش ولا غرامة واحدة على المحل بسبب رينيه، يبقى منبعش ليه ونكسب"."
 
ويضيف بأن عمله يتوسع الأن عن طريق اسم جديد غير مرخص أيضاً، يدعى (ش)، ويتم تصنيعه بمصنع بمنطقة مسطرد، وهناك مفاجأة جديدة يحضرها للجميع وهى تقليده لشركة مناديل كبرى تسمى (ف)، مع وجود بعض الإختلافات بين المنتج الأصلى، والمنتج بعد تقليده.
 

مصنع الإختراعات العظيم

صالة كبيرة تمتلئ بـ 9 رجال، على رأسهم هاني، كبير عمال المصنع، يعملون على تشغيل الـ 7 ماكينات الموجودة بالمكان، وجميعها ماكينات سحب وتقطيع، يتفرع من الصالة غرفتين، أما الأولى فغرفة كبيرة للمخزن بها كميات لا حصر لها من عبوات المناديل المخزنة، أما الغرفة الثانية بها 5 فتايات، تتراوح أعمارهن ما بين 15 – 20 عاما، بدت الطيبة والفرحة على ملامحن من الوهلة الأولى، وظيفتهن الأساسية هى تعبئة المناديل داخل الأكياس البلاستيكية تعبئة يدوية، وسط كل هذا يأتى صوت هانى المتخفى وسط ضوضاء الماكينات وهو يشرح كيفية عمل كل اّلة قائلاً "البكر الذى يأتى للمصنع يقسم إلى أنواع (مناديل مطبخ، تواليت، سحب) وكل منهم له مواصفاته الخاصة، فمناديل المطبخ ذات خامة ثقيلة وخشنة، والتواليت خفيفة وخشنة فى أنٍ واحد، والسحب مناديل ناعمة وهى اكثرهم استخداما، والسعر لا يختلف كثيرا فيما بينهم، فمثلا بكر التواليت يأتى رول كبير بطول 175 سنتيمتر، ليقسم إلى 18 بكرة كل واحدة منها بطول 9.2 سنتيمتر تقريبا، مع الأخذ فى الإعتبار أن مناديل السحب هى فقط التى يتم التعامل معها بالوزن داخل المكان، فالعبوة المحببة منها من المفروض أن تزن ما يقرب من 150 – 160 جرام، والسادة منها تزن 300 – 350 جرام، أما باقى الأصناف من التواليت والمناشف فتعامل بالقطعة، حيث يباع بكر المناشف "مناديل المطبخ" الـ 3 بكرات منها بـ 10 جنيهات، وبكر التواليت الـ 9 بكرات منها بـ 6 جنيه، دون النظر الى وزنها من الأساس، فيضيف هانى إن الاعتماد على بيع مناديل المطبخ والتواليت يعتمد على عدد البكر داخل العبوة، وليس على وزنها فقط.
 
ومن جانبه أكد الدكتور أشرف حاتم وزير الصحة السابق واستاذ الصدر والحساسية أن المناديل المقلدة والتي يتم تصنيعها في مصانع غير معروفة ينتشر معظمها في مناطق نائية وبعيدة عن أعين الجهات الرقابية تسبب بعد استعمالها لأكثر من مرة حساسية شديدة علي الصدر إلي جانب أنها تصيب جهاز الرئة بضيق في التنفس بمرور الوقت .
 
وقال حاتم إن هذه المصانع تستخدم ألوان صناعية غير مطابقة لمواصفات التصنيع المصرية والعالمية التي حددتها مواثيق وقوانيين الصحة ، وهذه الألوان تسبب روائح لا يشعر بها المواطنين لكن خطورتها بالغة علي صحة الإنسان مشيرا إلي أن جهاز حماية المستهلك هو المنوط به الرقابة المباشرة علي هذه المصانع للتأكد من مطابقة منتجاتها للمواصفات القياسية.
 
وأكد هاني بركات مدير هيئة المواصفات والجودة السابق أن الرقابة علي المصانع غير الرسمية أو ما يعرف بمصانع "بير السلم" في غاية الصعوبة بسبب عدم وجود بيانات رسمية مسجلة لهذه المصانع ،كما أن هذه المصانع منتشرة في أنحاء متفرقة من الجمهورية وغير مسجلة علي خريطة الجهات الرقابية لوجودها في أماكن عشوائية تكثر فيها حالات الإجرام والمخالفات القانونية .
 
وقال بركات إن مصانع المناديل معدومة الهوية كثرت في الأونة الأخيرة وتحديدا عقب ثورة يناير لغياب الرقابة بشكل كلي وضياع هيبة الشرطة بمختلف أجهزتها ، كما أن أصحاب هذه المصانع يختارون أماكن نائية وبعيدة عن أعين الجهات الحكومية حتي يتمكنوا من صناعة منتجات غير صحية بأرخص التكاليف والإمكانيات ،وهذه المناديل تصنع من أردأ أنواع الوراق "الفرز الثالث" الذي لا يصلح للاستخدام الأدمي بأي حال من الأحوال إلي جانب استخدام ألوان غير مطابقة للمواصفات القياسية، وهذه المناديل تسبب علي المدي البعيد مشاكل صحية كثيرة منها علي سبيل المثال خلل في أجهزة التنفس لدي الانسان .
 
وتابع رئيس هيئة المواصفات والجودة السابق : أثناء رئاستي لهيئة المواصفات والجودة قمت بتدشين برنامج بالتنسيق مع مصلحة الرقابة الصناعية لتوفيق أوضاع هذه المصانع وحجب المنتجات المضرة والتي تؤثر علي صحة المواطنين ، ولم أجد التعاون بالشكل الكافي ،فتوقف البرنامج نهائيا .
 
وطالب بركات بضروة التنسيق الكامل بين وزارة الصناعة ووزارة الصحة والمجالس المحلية علي مستوي الجمهورية ،فضلا عن اقرار برنامج ومشروع قومي للكشف عن البؤر التي تتواجد فيها تلك المصانع وللحفاظ علي صحة المواطنين.
 
 
 
 
 
 


تعليقات القراء