د. أيمن منصور ندا يكتب: عمرو أديب.. بين الاستمرار والاعتزال
د. أيمن منصور ندا، أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتليفزيون، بكلية الإعلام جامعة القاهرة، يكتب: عمرو أديب .. بين الاستمرار والاعتزال
أشاهد عمرو أديب وأتابع برامجه منذ أغسطس 2001.. وأكاد أزعم أنني شاهدت كل الحلقات التي قدمها منذ ذلك التاريخ فيما يشبه الإدمان.. حتى في سنوات سفري إلى الخارج (2010- 2015)، كان برنامجه (القاهرة اليوم) هو الوحيد الذي أتابعه بشكل منتظم، لكي أظل مرتبطاً بالوطن..
وخلال هذه السنوات العشرين، رأيت مراحل تطور "عمرو أديب"، ورأيت تغيراته وتقلباته.. وتابعت مواقفه واتجاهاته.. مؤيداً ومعارضاً، ومعجباً به وساخطاً عليه .. وفي كل الأحوال كنت مقدراً لجهده، ولموهبته.. والأهم لإنسانيته ولمواقفه الخيرية الرائعة..
خلطة عمرو
عندما ندرس للطلاب مقومات الإعلامي وخصائصه، فإن نموذج عمرو أديب يبرز على الفور كنموذج مكتمل لما لا يجب على الطلاب والساعين إلى أن يكونوا إعلاميين أن يكونوا مثله.. فكل مكون من مكونات شخصيته الإعلامية بمفردها "فيها حاجة غلط"، غير أن هذه المكونات مكتملة ومجتمعة تجعل منه "نموذجاً فريداً" وناجحاً جداً، ولا يملك سر الخلطة والتكوين غير عمرو أديب نفسه..
ولا اعتقد أن عمرو أديب من هواة قراءة الكتب.. ثقافته سمعية في الغالب .. وصحفية في الأساس.. وهو ما يتضح في مخرجاته الاعلامية .. هو رجل حكَّاء.. ولديه قصص يحكيها.. ولديه قدر كبير من ذكاء أولاد البلد، وحسهم الفكاهي، وعدم تكلفهم.. عمرو أديب تطبيق للمذيع "اللي هو واحد زينا".. مفجوع أحياناً.. وعشوائي أحياناً.. ويحب التلميحات الخارجة أحياناً.. وميزة عمرو أنه يذاكر جيداً.. ويستعد بشدة، قبل أن يترك نفسه للعفوية وللتلقائية.. هو نوع من الارتجال الوهمي.. الذي يجيده ويبرع فيه.. ورصيد عمرو أديب الانساني لا يماثله أي إعلامي آخر.. حملاته الخيرية وأنشطته الانسانية جعلت منه مؤسسة خيرية في حد ذاتها ..
وعمرو أديب ليس في ثقافة إبراهيم عيسى.. ولكنه في المقابل ليس مثل رامي رضوان.. وهو ليس في درجة قبول محمود سعد أيام زمان، ولكنه ليس مثل تامر أمين.. وهو ليس معارضاً كيسري فودة .. ولكنه ليس مثل أحمد موسى.. وهو ليس في رزانة وأدب أسامة كمال.. ولكنه ليس مثل نشأت الديهي.. وهو ليس في خبرات مفيد فوزي ولكنه ليس مثل خيري رمضان.. هو شيء وسط بين الاضداد.. تماما مثلما كان يقول أرسطو إن الحكمة هي نقطة وسطى بين رزيلتين.. وهو ليس هادئاً كأخيه أو حاداً كزوجته، لكنه يشترك معهما في الثقة المبالغة بالذات والاعتقاد في الامكانيات، وهي صفة مقدرة علي أية حال، وهي سر نجاحه..
له ما له وعليه ما عليه!
مشكلة عمرو أديب أنه مصدر كل مميزات وعيوب برامج التوك شو في مصر.. معظم نجوم التوك شو خرجوا من تحت عباءته، ومروا من شاشته ..وأخذوا منه أسوأ ما فيه، ولم يستطيعوا تقليده في مميزاته.. وهو لذلك يتحمل وزر كل أخطاء التوك شو المصرية.. في مناهج البحث يفرقون بين الخطأ العشوائي random error والخطأ المنتظم systematic error ..
وأخطاء عمرو أديب التي انتقلت إلى مقدمي التوك شو هي أخطاء منتظمة في السيستم نفسه .. عندما تصور "ورقة" وتظهر على نسخة منها بعض بقع الحبر، فهذا خطأ عشوائي يحدث في نسخة واحدة.. أما عندما يحدث هذا الخطأ بشكل منتظم بسبب وجود هذه البقع في النسخة الأصلية التي يتم التصوير منها، فهذا خطأ منتظم ينتج عنه وجود أخطاء دائمة في كل المنتجات .. أخطاء عمرو أديب وما تم تقليده هي أخطاء في السيتسم وليست عرضية.. أبرز هذه الأخطاء هي فكرة المذيع الخطيب .. المذيع السياسي.. مقدمة عمرو أديب تقترب من الساعة.. تعرض وجهة نظره في كل الموضوعات والقضايا .. أصبح المذيع هو الخصم والحكم، وهو المذيع والضيف، والقاضي والمحامي.. كومبو توافق واجتماع كل السلطات في سلطة واحدة.. سقطة تامر أمين الأخيرة مسئول عنها عمرو أديب.. وخطايا أماني الخياط وريهام سعيد وغيرهما مسئول عنها عمرو أديب!!
ولأن عمرو أديب من الذكاء بحيث يعرف أن "المونولوج" إذا لم يكن قصيراً ومكثفاً يكون مملاً وفاتراً مهما كانت شخصية قائله، فقد حرص دائما على وجود "السنيد" أو المذيع المساعد معه .. فرأينا محمد شردي، وأحمد موسى، وضياء رشوان، وخالد أبو بكر، وعزت أبو عوف، وحمدي رزق، ومفيد فوزي وغيرهم .. ومن العنصر النسائي نيرفانا إدريس، وشافكي المنيري، ورانيا بدوي.. إضافة إلى شخصيات في فقرات أساسية استمرت معه فترات طويلة مثل رجاء الجداوي و حسين الإمام، وخالد الجندي، وسعد الهلالي وغيرهم ..
وفي اعتقادي، أن فترات توهج عمرو أديب كإعلامي كانت في وجود شخصيتين أضافا إليه كثيراً.. الأولى كانت نيرفانا إدريس (2000- 2005).. التي كانت سبباً رئيساً في تقبل الجمهور له في البدايات وفي التعود عليه .. ملامح عمرو وتكوينه الجسدى لم يكن عاملا مساعدا له بدون وجود نيرفانا إدريس.. كانت نيرفانا هي الجسر والكوبري الذي عبر من خلاله عمرو وتخطى حاجز القبول والألفة في المرحلة الأولى.. من الصعب قبول طريقة كلام عمرو في البداية لمن لا يعتاد عليه .. كان عمرو في حاجة إلى نيرفانا في البداية.. وكان طموح نيرفانا أكبر من عمرو في النهاية .. وكان الانفصال حتمياً.. وهو ما تم بعد انتخابات الرئاسة المصرية لعام 2005، وانتقالها إلى التليفزيون المصري، وإلى البيت بيتك في محاولة لاستنساخ تجربة القاهرة اليوم، قبل أن تجبر نيرفانا إدريس على ترك التيلفزيون المصري، لتحل محلها وجوه نسائية عديدة لم تنجح في استنساخ ثنائي عمرو ونيرفانا. ومنهم منى الشرقاوي وإيمان الحصري وغيرهما..
الشخصية الثانية، والتي مثلت إحياء لبرنامج القاهرة اليوم بعد فترة ساد فيها العنصر الرجالي، وإعادة الحيوية لعمرو أديب ذاته، كانت رانيا بدوي (2014- 2016).. خلفية رانيا بدوي السياسية، وتمثيلها وجهة النظر الأخرى مع عمرو أديب، وقدرتها على صنع "ثنائي متفاهم" يضيف كثيراً من الحوار اللطيف، خفف كثيراً من حدة وجفاف برنامج القاهرة اليوم .. وبمثل ما أضاف عمرو أديب إلى رانيا بدوي نافذة واسعة تطل من خلالها على المشاهدين، فقد منحت رانيا بدوي للقاهرة اليوم ولعمرو أديب قبلة الحياة في هذه الفترة.. وهو ما جعل عمرو أديب يحرص على اصطحابها معه إلى برنامج كل يوم على قناة أون. كان الثنائي عمرو ورانيا متفاهمين تماماً، مدركين تماماً لما يريدانه.. ولذلك فقد تحقق لهما النجاح معاً.. وكانت حلقات عمرو المنفردة، وكذلك حلقات رانيا بمفردها لا طعم لها مقارنة بحلقاتهما معاً.. وأكاد أزعم أن تأثير رانيا بدوي على عمرو أديب لا يزال قائماً في اختيار العديد من الموضوعات، وفي طريقة معالجته لها!
بين الوصول والتأثير
عمرو أديب الذي يمثل رأس الحربة الإعلامية في النظام الإعلامي المصري الحالي فقد كثيراً من قوته.. هو إعلام يصل ولا يؤثر .. وهذه هي المشكلة.. عمرو أديب قناة توصيل جيدة، ولكنها ليست قناة تأثير .. الفرق كبير بينهما .. مصداقية عمرو أديب التي بناها خلال الفترة من 2000 وحتى سبتمبر 2010، وانتهت بوقف برنامجه لأنه وعلى حد تعبير المهندس أحمد عز "السبب في عدم رضا الناس عن الحكومة وسياساتها".. لم تعد كما هي .. وبعد 2011 ، وما بعدها حدثت تغيرات كثيرة في توجهات عمرو وفي أدائه.. كلها لم تكن في صالحه.. بحيث يمكن القول إن عمرو أديب يعيش في الفترة الحالية على رصيده المهني السابق، وما أعظمه وأكبره.. خصماً منه ودون أن يضيف إليه شيئاً ذا بال من الناحية المهنية، وإن كانت الإضافة كبيرة جداً من الناحية المالية..
كان برنامج القاهرة اليوم خلال الفترة من 2000 وحتى 2010 "صوت من لا صوت له" و"منبر من لا منبر له"، إذ فتح البرنامج أبوابه ومنح المعارضة جزءا كبيرا من وقته .. وكانت مساحة الحرية الإعلامية والسياسية حينذاك تسمح بذلك .. كل قيادات المعارضة على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها ظهرت عند عمرو أديب، ووجدت ترحيبا عنده .. كان عمرو أديب يضرب ويلاقي.. الطرفان موجودان، والغلبة للأقوى .. غير أن انحياز عمرو أديب كان للشعب أكبر منه للحكومة، وللبلد أكبر منه للنظام ولذلك كان مؤثرا.. وقد حاولت برامج أخرى أن تقلده، مثل العاشرة مساء على قناة دريم (2006- 2011) غير أن مساحة الحرية عند عمرو كانت أقوى، وجرأته كانت أشد..
بعد ثورتي 2011، و2013، تعلم عمرو الدرس جيداً، كما تعلمها "الأسود" في فيلم فجر الإسلام: عندما سأل شيخ القبيلة (محمود مرسي): من أين تعلمت كل هذه الحكمة يا أسود؟ قال له : من اللطمة التي دوت على وجه حنظلة!".. تعلم عمرو أديب أنه بدون الدولة وأجهزتها لا قوة له ولا ضمانة أساسية له.. لذا، فقد ارتمى في أحضانها، وحاول أن يكون على اتصال وتوافق معها خاصة في الخطوط العريضة والرئيسية .. انفرادات عمرو أديب في السنوات الأخيرة (2013- 2021) هي انفرادات أمنية لا إعلامية.. يتم اختياره لإجراء حوار أو توصيل معلومة أو كشف أمر ما أو إذاعة تسريب معين، وليس له في كل الأحوال حول فيه ولا قوة.. عمرو أديب أصبح أداة توصيل أمنية، أكثر منه صاحب انفرادات إعلامية حقيقية.
الاعتزال على القمة
عمرو أديب في ورطة حقيقية في الوقت الحالي.. فلا المثقفون واليسار قد أصبحوا راضين عنه بعد تحولاته وقفزاته غير المبررة .. ولا الجمهور العادي أصبح مقتنعاً به بعد أن أصبح ذراعاً للدولة وللحكومة في وجه فئات عديدة غير راضية عن أداء الحكومة وتوجهاتها الاقتصادية.. شعبية عمرو أديب قبل 2011 كان مصدرها المثقفون والمعارضة .. وحملاته الخيرية والإنسانية .. أما الأن، فقد خسر اليسار المثقف الذي كان جمهوره الاساس في الاوربت.. وفقد اليمين المتحفظ الذي يمثل جمهوره المستهدف في أون وإم بي سي.. وهو ما يشعر به عمرو أديب نفسه .. ولذلك بدأ في الإشارة إلى فكرة "الاعتزال" .. أشار إليها عندما وصل سن الخمسين (2014).. وطبقها في يونيو 2016 عندما قدم استقالته من أوربت، قبل أن يعود مرة أخرى إلى أون ومن بعدها إم بي سي.. وفي اعتقادي، أن عمرو أديب لن يجدد تعاقده مع أم بي سي، بعد انتهاء فترة الثلاث سنوات التي سنتهي خلال هذا العام ..
عمرو أديب حالياً في أضعف مراحله من حيث الأداء والمهنية.. وإن كان في أوج وصوله وعلو صوته.. ضعف وعدم مهنية كثير من الإعلاميين الحاليين، وإجبار عدد غير قليل من الإعلاميين المحترفين وذوي التأثير على الاعتزال أو الهجرة، سهلت من مهمة عمرو في الاحتفاظ بهذا الوصول والمشاهدية.... قبل فترة ، كنت يمكن أن أنصح عمرو أديب بالاعتزال الفوري.. فقد حقق ما لم يحققه إعلامي آخر في مصر.. ورصيد عمر مهنياً، وإنسانياً لا يجاريه فيه إعلامي مصري أخر..
الأن.. وبعد الحادثة الأخيرة وما كشفت عنه وأظهرت له.. ليس أمام عمرو أديب سوى الاستمرار لفترة قادمة.. وليس لنا سوى الإبقاء عليه في مواجهة الإخوان.. فهو صوت مزعج لهم.. مطلوب منه في مسيرته المهنية "حلقة قصيرة مكيرة كحلقات يوم الجمعة فيها كثير من الحكايات في الحلويات" في الاتجاه الصحيح.. اعتزال عمرو الأن، ليس في صالحه ولا في صالحنا.. واستمراره بنفس الطريقة، ونفس الاتجاه يقضي على البقية الباقية منه.. مطلوب عودة تصحيحية يعقبها قرار صحيح، أثق تماماً في قدرته على اتخاذه، وأثق تماماً في قدرته على تنفيذه..