عبد الله كمال يكتب: شهوة المناصب وحرب النخبة

نقلا عن موقع مبتدا

 

بدلاً من إدخالك في جدل نظري معقد ، واستدعاء رؤى وتحليلات كارل ماركس وماكس فيبر وفليفريدو باريتو حول معنى «النخبة» وتعريفها ودورها ، سأضرب لك مثلاً مبسطا: أي جيش في العالم تكون لدية فئة عامةمن الجنود في مختلف الأسلحة ، يحصلون على تدريب مقرر للجميع.

 
لكن الجيوش تنتقي من بين عموم الجنود أفرادا أصحاب مواصفات وقدرات استثنائية ، يحصلون بدورهم على تدريب مميز، لكي يكلفوا بمهام خاصة ..هؤلاء يطلق علىهم وصف «قوات النخبة».
 
بمعنى أشد تبسيطا يكون هؤلاء «عناصر منتقاة» ، مستعدة أكثر من غيرها لأن تقوم بما هو غير عادي، ومن ثم يتم إنفاق وقت وجهد ومال وخبرة أكبر علىهم ، لترسيخ تميزهم ، ليس من أجل مهام يقوم بها الجميع .. وإنما من أجل «المهمات الخاصة». 
 
الجيوش تنتقي ، لكن المجتمعات لا تنتقي نخبتها ، وإنما يتقدم المميزون الصفوف إلى الأمام بما لديهم من اختلاف ، وبما يتمتعون به من قدرات لا بد أن تكون فريدة .. تجعل لهم مكانة مختلفة لا يتساوون فيها مع الأفراد العاديين .. بمضي الوقت يتحول «المميزون» إلى «قادة رأي» ، يؤثرون بتوجهاتهم في الجموع بصورة أو أخرى .. ويُفترض في «النخبة» أن تكون عقولا تبُدع وتضيف وتدفع بمجتمعاتها إلى مناحي ليس مطلوبا من فرد بين العموم أن يعطي لها جهدا .. فإن أعطى وأصبح له تأثيره قطع طريقه نحو أن يكون من بين «النخبة». 
 
في العادة فإن الدول الأقل تطورا تترك عمليات الفرز المجتمعي على عواهنها لكي يتقدم الصف كل من يعتقد في نفسه أنه «مميز».. ولأنها غالبا ما لا تخضع لمعايير منضبطة قادرة على الاصطفاء الناضج والفعال .. فإن عملية مرور فرد عادي إلى مصاف النخبة قد تمر بطرق ملتوية وتنافسات غير شريفة وتدليسات معيارية ، وتتداخل المنافع والمصالح والشللية التي تعرقل هذا أو تعين ذلك . ولا تكون «النخبة» معبرة بصورة حقيقية عما يكون لدى المجتمع من قيمة . هكذا قد يعتلي القمة من لا يستحق وقد يبقى بعيدا غائبا في القاع من يدهسه طغيان عوامل الخلل والاضطراب. 
 
في أوروبا والدول المتقدمة ، تكون هناك مفارز وآليات قادرة على أن تكتشف تلك القدرات ـ الخبرات ، بحيث لا يمر من غربال التمييز إلا من هو مميز ، ولا يتقدم إلى قيادة الرأي إلا من يكون قادرا على القيادة وفي الأصل لديه رأي. في تلك الدول لا يوجد ما يمكن وصفه بأنه مثلا «معهد انتقاء النخبة» ، ولا يمر المثقفون بامتحان لاختبار القدرات .. لكن لديها بنائيا طرقا متنوعة لاكتشاف التميز في مختلف المجالات وفي مختلف المستويات .. من المدرسة إلى الجامعة ، ومن أصغر وحدة حزبية إلى رئاسة الحكومة. كما أن بعضا من تلك الدول تكون لديها معاهد ومراكز قادرة على صقل الكفاءات وتطوير الإبداعات ومن ثم إعانة المنتقين على أن يكونوا أهلا لكونهم«نخبة». 
 
 لا يعني هذا أنه لا يمكن لمجتمع من هذا النوع المتقدم أن يمرر إلى الأمام من لا يستحق، أو يفقد في الطريق من يكون أهلا لأن يتقدم دون أن يتمكن من ذلك .. فلكل قاعدة استثناء ، كما أن تلك المجتمعات ليست «يوتوبيا»لا يأتيها الباطل .. وهناك قدر لا بأس به من «الفهلوة» والألعاب الخفية والتعضيدات غير المعلنة التي تتجاوز المعايير . إلا أن تميز تلك المجتمعات هو أنها إذا اكتشفت ذلك تكون قدرتها على المحاسبة عسيرة، وتسحب ممن لايستحق ما ناله في لحظة بكل قسوة وعنف يقللان من احتمالات التكرار.. لكنهما بالتأكيد لا يمنعانه تمامًا. 
 
 المقارنة الآن صارت حاضرة لا شك في ذلك ، ولا بد أنك قد استدعيت إلى الذهن حال ما يطلق علىه وصف «النخبة» في مصر ..  وبدأت في طرح التساؤلات حول كثيرين ممن لا يستحقون أن يكونوا كذلك في حين أنهم يفرضون أنفسهم ، أو يفرضهم غيرهم ، لكي يكونوا هم «قادة الرأي» والمتقدمين للصف . سوف أضيف إلى تساؤلاتك استفهاما جوهريا آخر : هل تعتقد أنه لا بد أن تكون النخبة كلها مشهورة ومعروفة .. وهل تظن أن كل من هونخبة لا بد أن يكون حاضرا بصورة أو أخرى في برنامج تليفزيوني كل ليلة ؟ 
 
في حقيقة الأمر فسخ الواقع المصري كل المعايير المعروفة عن «نخبة المجتمعات»، بدءًا من طريقة فرزها وانتهاءً بحقيقة دورها : واقعنا اختصر معنى النخبة في أنها «ضيوف البرامج» والذين يتمكنون من حصد عوامل الشهرة الإعلامية. واقعنا يتفاجأ بين حين وآخر بمجموعات من الأفراد يتصدرون المشهد بينما يختفي غيرهم ، فلا تعرف لماذا اختفى هؤلاء ولماذا ظهر أولئك . واقعنا أضحى أسيرا لصراعات تلك النخبة و«شللها» وحروبها الضارية فتحولت إلى أسباب لتفتيته معنويا وفكريا بدلا من أن أن تكون قيادته نحو الوصول إلى نسق عام يشحذ كل جهوده. واقعنا فقد الثقة في نخبته إلى درجة أن المواطن العادي صار يتحدث عن ما تسببه له ، بينما لا يكون هذا حاضرا في نقاش أي مجتمع. 
 
إن مكمن المشكلة قابع في افتقاد المجتمع لآليات الفرز والتقييم ، وهو عيب حقيقي في نظم الحكم المتوالية .. تراكم بمضي السنوات .. في مجتمع يبدي بطبيعته مقاومة للتميز، ويكبل لأسباب ثقافية عديدة، وتراكمات بيروقراطية عتيقة ، الميل للفرادة ، يكون افتقاده لتلك الآليات أن التقدم غالبا سيكون فعلا عصاميا .. فرديا أو «شلليا»، ومحصلة حروب شريفة أو غير ذلك ، تقتضي تخطي عراقيل عديدة .. ما يؤدي في كثير من الأحيان إلىقبول قواعد المحسوبيات وشبكات المنافع المتبادلة .. ولكل عصر محسوبياته ولكل وقت منافعه حتى لو كان يوصف بأنه «ثوري».
 
كان من الممكن أن تنحصر الآثار السلبية لهكذا مشكلة إذا ما كان في مصر مناخ سياسي وعلمي وفكري ناضج ، يتفاعل بطريقة مثمرة ، تقوض النتائج التي يفرزها عدم وجود آليات لفرز وتصعيد النخبة. لكن المشكلة تتضاعف مع ضعف عام في كل البنى الموازية .. وفراغ ملأة الإعلام في كل المجالات. إن الخطورة لا تقتصر على أن الصحف والمحطات تمارس السياسة عوضا عن الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني ، بل إنها أيضا قد تتطوع لتقود العملين العلمي والفكري وتحدد من هو الذي ينبغي أن يحظى بالتميز ومن الذي يمكن أن يتقدم الصف. 
 
في حال كهذا لا تكون جائزة النخبة هي أن تتوج أفكارها ورؤاها بالانتقال من الحالة النظرية إلى العملية .. بل أن تتمكن من شغل مساحات أكبر على الشاشات والصفحات . وفي مناخ مماثل لا يكون دور النخبة هو الإبداع العقلي بل القدرة على تشبيك العلاقات مع وسائل الإعلام . وحيث يكون الهدف هو أن يؤدي ذلك إلى احتلال مناصب ومواقع بتعضيد من تلك المكانات المصنوعة إعلاميا لا عقليا. 
 
في خلفية هذا كان هناك عامل آخر ، له جذوره التاريخية.. ذلك أنه لإسباب متبادلة صنعتها النخبة والدولة معا ..كان أن أصبح تعريف النخبة مبنيا على مدى قربها من الدولة واعتراف المؤسسة الرسمية بها. وقد ظلت تلك هي الحالة بتنويعات مختلفة على مدى السنوات قبل يوليو ١٩٥٢ وبعده . وكانت جائزة النخبة في أغلب الأوقات هي أن تنال منصبا أو موقعا ، لاسيما بعد أن قررت الدولة أن تطعم البيروقراطية بأكاديميي الجامعة بدلا من النخبة الآتية من صفوف القوات المسلحة أو إلى جانبها. 
 
هذا الواقع كان أحد أسباب الغضب الرئيسي الذي واجه حكم محمد حسني مبارك في سنواته الأخيرة، ذلك أنه واجه ظرفين أحدهما من صنعه والثاني فرضه عليه الواقع .. فهو بمضي سنوات الحكم الطويلة كان إذا استبعد أحدا من النخبة لا يعيده مجددا ، وفي ذات الوقت فإن كعكة التوزيع ضاقت مع استمرار سنوات رئاسته بينما كانت المطالبات تتزايد .. وقد أدت التلبية شبه المنعدمة للمطالب إلى انضمام عدد كبير ممن ينسبون إلى النخبة إلى معارضي مبارك ورافضي حكمه.
 
استتبع هذا بالتالي نمو شهوة المناصب ، والسعي إليها ، بُعيد يناير ٢٠١١ ، وكان أن صدرت عناصر النخبة الراغبة في تواجد كثيف إلى المجتمع ما تحتقن به منذ سنوات.. تجاه نخبة أخرى رأت أنها كانت قد حصلت علىفرصها في عصر مبارك .. ورسخ هذا حروب النخبة التي تم تسويقها مجتمعيا على أساس أنها تعبر عن اختلافات سياسية أو انحيازات اجتماعية في حين أنها لم تكن سوى طموحات شخصية وأحلام استوزارية. 
 
إن الأمثلة كثيرة جدا، لكن ذكر الأسماء هنا لن يكون مفيدا ، بقدر ما يكون منتجا أن ننتبه إلى أن النخبة لم تقدم لمصر بعد ٢٥ يناير الجهد العقلي والفكري الذي يمكن أن ينتقل بها من مرحلة إلى أخرى .. أو يطرح على الدولة تصورات بديلة للمستقبل. في حقيقة الأمر نحن نتعايش مع «نخبة ذواقة» تظهر لكي تقول رأيا في قرار أو موقف أو توجه .. لكنها لا تطرح رؤية أو تفتح أفقا . وعلى عكس مختلف دول العالم المتقدم فإن الدولة في مصر هي التي تنتج الرؤى والتصورات .. على تشوهاتها وعدم اتساق أبعادها .. في حين أن النخبة تمثل فريقا من المشتهين المنتظرين الذين يريدون أن تطلب منهم الدولة أن يتوظفوا لديها لكي ينفذوا ما أنتجت هي. 
 
قد يكون حل هذه المشكلة واضحا ، ويتمثل في تعويض نقص المفارز ، وتقويض مناخ شللي فاسد يتواطأ مع من لا يستحق ، وأبنية مؤسسية تقوم بأدوارها على أن تعيد الإعلام لدوره الحقيقي لا المفتعل .. لكن كل هذا يستغرق سنوات طويلة من إصلاح مستمر بلا انقطاع . وبافتراض أن هذا سيكون ، وإلى أن يكون ، فإن التحدي الخطير الذي تواجهه نخبة مصر هو أن الجمهور صار يتدخل بنفسه لكي يحدد مدى تميز النخبة ومستوى قبوله لها.. والجمهور بطبيعته لا يملك معايير التقييم المفترضة والواجبة لذلك . ما يعني عمليا أن النخبة التي استمرأت عقودا وسنوات مبدأ الشللية وإهدار المعايير سوف توضع على مقصلة من اللاتقييم أو على أقل تقدير تسلم قيادها لمذبح التقييم العاطفي. 
 
يمكن اختصار تلك المآسي التي تهدر في كل يوم أسماء وعقولا مصرية إذا ما استعادت النخبة دورها ، وانتبهت إلى ما علىها ، وفرضت هي على ذاتها إعلان الهدنة في الحرب المناصبية وكتمت الشهوة الإعلامية ..واختارت أن تقود إصلاحا يبدأ بها ومن داخلها. هذا ممكن ولكنه بعيد المنال نوعا ما. 
 
تعليقات القراء