خالد بديع يكتب: عملية غسيل الدستور!

 

قرأت قبل هذا عن غسيل الملابس وغسيل السيارات وغسيل الأموال، ومن المعروف أن الذى يحتاج إلى غسيل هو الشيء القذر، لذا أتعجب ممن يتحرقون شوقا للاستفتاء مدعين أن هذه هى الديمقراطية، وللأسف فإن الديمقراطية فى مصر دون ديمقراطيين، وإنما هي مجرد استخدام لمبدأ وطريقة حضارية فى غسل المبادىء المتطرفة بطريقة غير حضارية، وبالمثل هم يريدون غسل الدستور!
 
بعد عملية سلق الدستور التى تمت أمام أعين الشعب بأكمله، وعدم استطاعة أي شخص على وجه الأرض إنكار أن الغرض من جلسة الخميس المشئومة كان الانتهاء من الدستور، وضعنا لديمقراطيّون الأشاوس أمام أنفسنا، فالاستفتاء أمامنا والاعتراف بالدكتاتورية خلفنا، ثم إذا وافقت على الاستفتاء، فالدستور أمامك والإعلان الدستورى خلفك!
 
نفس الطريقة ونفس السيناريو، كل مرة يطلب فيها تطبيق الديمقراطية من الناس، والمعترض أكيد ديكتاتور مش فاهم ديمقراطية! فبداية من استفتاء 19 مارس مرورا بانتخابات مرسى وشفيق، ووصولا إلى استفتاء الدستور، تحب تموت بالسم ؟ ولا تموت بالمسدس؟ قمة الديمقراطية فعلا، ويتناسون تماما أن المسئول عن هذا العبث هو من يسأل السؤال وليس من يجيب! فكيف لأحد موافق على 90 % عسلا أن يبدى رأيه، وهو يجد 10% سما، و فى الآخر يقول لك اختار!
 
وفى كل مرة يتم غسيل منتج قذر للعبور به تحت جناح الديمقراطية، ومع أول انكشاف لهذا المنتج القذر ينفجر فيك الناس، ده اختيار الشعب وهى دى الديمقراطية!
 
ويا ليت الإخوان والسلفيين يتذكرون المادة 28 الخاصة بتحصين اللجنة العليا للانتخابات، والتى كان من دعوا للتصويت بنعم تحت حجة الاستقرار أو حجة دخول الجنة هم أول من انقلبوا عليها وطعنوا عليها أمام القضاء!
 
أما أسباب غسيل الدستور فواضحة للجميع، فإذا لم تستطع أن تنتصر على أعدائك الحقيقيين (الفشل – التخبط – غياب مشروع النهضة – الإعلام الذى لا يستطيع أن يبيع فى مصر دون شرشحة لمن يحكم بغض النظر عمن هو – الشعبية التى تنخفض بسرعة الصاروخ) ولهذا كان إيقاف هذا كله يجب أن يتم عن طريق اختراع مؤامرة وهمية ومعركة تخيلية لتحقيق النصر فيها!
 
ورغم علمي بهذا مسبقا فقد قررت مجاراتهم وعصر الليمون على نفسى (كالعادة!) وقراءة الدستور، ورغم علمي أنه لا فائدة من النقاش، حيث الجدل والصوت العالى واللف والدوران والاتهامات والإجابات غير المنطقية، فقد قررت قراءة الدستور اعترافا منى باضراري في النهاية للبسه بعد غسله!
 
والحقيقة أنني استغرقت وقتا طويلا في القراءة حتى أكون ديمقراطيا فى رأي الآخرين، وحتى لا أتهم بالديكتاتورية أو الفلولية أو الخرفانية!
 
وعندا قرأت الدستور وجدت العسل فيه معقولا، والسم فيه معقول هو الآخر، ما خلاص أنا اتعودت على كده مفيش مشكلة! وشوية سم مش مشكلة، خلاص بقت عندي مناعة !
 
لكن ومع الاعتذار طبعا لمن يؤمن أنه أعظم دستور فى العالم -زى بالضبط إحنا أذكى شعب فى العالم- بعد قراءة 218 مادة وصلت للمادة 219 فكدت أضرب نفسى بالجزمة، فبعد أن أتعبت نفسى فى قراءة 218 مادة اكتشفت فجأة على أعتاب هذه المادة أن كل ما قرأته لا قيـمة له!
 

(مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة)

 
يا جماعة أنا راجل جاهل ممكن أعرف أين أجد هذا الدستور لأقرأه وأقول رأيي بعد خمسة أيام؟ إنتوا مش عايزينا نقرااااااااا، طيب ما نقرا، الأهم قبل المهم، والحمد لله فيه وقت كبيــر علشان نقرا قبل أن نستفتي! يا جماعة أكيد الحاجات الجامدة فى المادة 219 دى كلها
 
عبارة عن أحكام واضحة لا اختلاف عليها! فلماذا لم يضيفوا أبنديكس للدستور الأولانى يتم وضع هذا الدستور الثانى فيه! أكيد لو عايز فى أي مشكلة دستورية عظيمة مطلوب من إنى أفتى فيها أكيد هلاقيها فى هذا الأبندكس! أكيد اللجنة العظيمة اللى اخترعت الدستور نسيت تحطه،وأكيد هو واضح لا لبس فيه لن يخضع لأهواء تفاسير البشر!
 
وأكيد لما نسأل سؤال معين سنجد إجابة واضحة قاطعة لا اختلاف عليها فى هذا الدستور! يا جماعة ده دستور تانى أعلى من الأولاني! وأكيد الدستور التانى ده ناقص الحاجات اللى اتكتبت فى الدستور الأولاني، وإلا لماذا أضاعوا وقتهم ووقتنا ستة أشهر كاملة فى كتابة الدستور الأولاني!
 
فنحن نتكلم عن الشريعة، وليس على آراء بشر فى تفسير القواعد الفقهية طبقا للكتاب والسنة والإجماع والقياس، فحتى القرآن الكريم الذى أنزله رب العرش العظيم على الرسول صلى الله عليه وسلم له عشرات التفاسير!
 
وأنا أعدكم أن أقرأ هذا الدستور الثانى بعد أن نلت شرف قراءة الدستور الأولانى وأنزل أقول نعم فى الاستفتاء بمجرد أن يحددوا ما هو بالضبط وأفهم منه حقوقى وواجباتى طبقا لتعريف الدستور، طبعا لأنى جاهل فأنا مش عارف هو فين، وأكيد كل اللى بيقولوا اقرأ الأول علشان ماتبقاش خروف أكيد عارفين هو فين، ممكن حد ينزله على النت!
 
وهنا فقط أستطيع القول إن من يريد إجراء الاستفتاء اليوم، يريد أن يسقيك سمه، لأنك ستجد نفسك تائها معه، لن تستطيع معرفة لا حقوقك لتطالب بها ولا واجباتك لتؤديها!!!
 
يا سادة غسيل الدستور أكيد مش علشان حالة الهلع اللى عند الناس بعد امتلاء ميدان التحرير دون الإخوان لأول مرة فى تاريخه، وأكيد مش علشان تغطية نسبة انتخابات الرئاسة التى جاءت على طريقة السم، وأكيد مش علشان يلحقوا تثبيت شرعية الرئيس قبل أن تتآكل، وقدرة المعارضة الكافرة الموحدة ولو مؤقتا والتي يمكن القول إنها بتزيد بعد مشاهد القلة القليلة المندسة فى الميادين، ولذلك يريدون وأد المعارضة فى مهدها، ويا حبذا لو كان دون إشراف قضائى من أساسه أو دون صناديق انتخاب أصلا، فيصبح غسيلك أكثر بياضا!
 
ولا أفهم كيف لاي شخص ديمقراطى أن يطلب من المعارضة بعد غسل هذا الدستور أن تصمت للأبد، حتى لو كان نظيفا ديمقراطياَ!
 

بالمناسبة لمادة 76: العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستورى أو قانونى، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون.

 
فى التصويت الأخير أضيفت كلمة "نص دستوري أو قانوني"، كلمة واحدة فقط (دستوري) بمقتضاها يمكن للقضاة أو لبعضهم إصدار أحكام تعاقب بالجلد وقطع اليد وأي عقوبة غير مذكورة في قانون العقوبات، وفقًا لقراءتهم للمادتين 2 و219 من الدستور، وسيؤدى هذا أيضًا إلى اضطراب وتضارب في أحكام المحاكم، حيث سيلتزم قضاة بنصوص القانون وآخرون بالنص الدستورى، والمفروض أن مبادئ الدستور عامة ومبادئ القانون محددة بدقة لا تترك الأمور لهوى القضاة".
 

يا ترى قصدها على أنه دستور الأولانى و لا التانى؟ ده القضاة هيحتاسوا حوسة جامدة قوي!

 
وأخيرا بعد مهزلة تحصين الدستور لمدة 10 سنوات، وهى المادة المشبوهة التى تم إلغاؤها، ولا أعرف سبب وجود حمى التحصين هذه الأيام، إذا كان جهابذة اللجنة الدستورية رأوا أنه تلزم موافقة ثلثى أعضاء مجلس الشعب والشورى على تعديل الدستور، أي نسبة 67%، فلماذا يطلبون الموافقة فى الاستفتاء بـ51 % فقط لإقراره؟! يعنى تلبسه بسرعة وماتعرفش تقلعه، ديمقراطى ديمقراطي يعني!
 
وإذا كانوا متأكدين من أن اللجنة التأسيسية تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا بل وقد تنازل التيار الإسلامى من أجل التوافق، ولا يمثل المنسحبون إلا أنفسهم فقط، فلماذا لا نجعل نسبة التصويت 80 % مثل نسبة التصويت فى اللجنة!!
 

عفوا يا سادة، لن تكفى جميع مساحيق الغسيل فى العالم لغسل هذا الدستور، فالبقع التى به أقذر مما تتخيلون! 

تعليقات القراء