محمد عز الدين يكتب: الثامن من إبريل

هو ذلك الوجه الحزين الذي يطالعك -في الثامن من أبريل من كل عام- حين تواجهك المرآة، وعينها تثقب عينيك بنظرة (لا تصالح)؛ بينما لا تملك أنت سوى الوقوف أمام الماضي والحاضر متسائلا أين المفر؟!!

المكان: ميدان التحرير، الزمان: الجمعة الثانية من أبريل عام ٢٠١١، اليوم الذي أيقن فيه الثوار أن المجلس العسكري يسعى لإطالة فترة المحاكمات لأسباب قد يخمنها الكثيرون، ولا يحصونها، نزلوا إلى الميدان، وهم يمتلئون غضبا وحيرة، ظنوا أن الجيش نزل ليحمي الثورة، وأن المجلس العسكري لا علاقة له بأفعال النظام السابق، الملاك البريء الذي اعتاد أن يشاهد الشياطين تفعل ما تشاء في البلاد سرقة ونهبا وتعذيبا وقتلا، وهو مكبَّل الأيدي، لا حول له ولا قوة!!!!!!

خرج الثائرون يوم (جمعة المحاكمة والتطهير) وهم لا يعلمون أن المفاجآت في انتظارهم، ظلوا يهتفون مطالبين بسرعة محاكمة من قتلوا أبناءهم ونهبوا أموالهم، رفعوا اللافتات تطالب بالحق وكأنها مكتوبة بدماء الشهداء، وإذ بهم يفاجأون بمجموعة من الضباط يدخلون (بزيهم الرسمي) ويشقون الصفوف ليقفوا بين الثوار (وهم يؤمنون بمصريتهم قبل عسكريتهم)؛ ليهتفوا وينددوا يعلنوا ولاءهم لثورة الشعب ولمصر قبل الجيش وقادته، وسط تأييد شديد من (أهل الميدان)، بعد أن شعر هؤلاء الضباط بأن المجلس العسكري وخاصة (المشير محمد حسين طنطاوي) يتلاعبون بمطالب الثورة، ويتعمدون تصفيتها معنويًا وماديًا، فقرروا الانضمام إلى المتظاهرين، وخوض غمار مخاطرة علموا أنها قد تستحيل عليهم عذابا وقهرا -وهو ما حدث بالفعل- ولكنهم أصرُّوا على الالتزام بحق الناس والوطن عليهم وأسرُّوا النية لله، ونزلوا للميدان حيث ولدت شرعية المصريين في تحديد المصير.

المفاجأة الثانية كانت أشد هولا من الأولى وجاءت عكس اتجاهها، جاء رد الفعل الأولي للمجلس العسكري ومريديه، شديد اللهجة يحمل تهديدا ووعيدا للظباط ومن سيفكر في حمايتهم -ومن سيفعل هذا غير الثوار؟!!!- وتصاعدت حدة الاتهامات لهؤلاء (المصريين قبل العسكريين) مثل إهدارهم لشرف البدلة العسكرية (ونسوا شرف الوطن الذي ينتهك)، مخالفتهم لأوامر قادتهم (وإن جاءت لتقتل ثورة الشعب الذي من المفترض أنهم يحمونها)، خيانتهم للميثاق العسكري (وكأن إخلاصهم للوطن وقضيته خيانة)!!! ومع تصاعد الاستفزازات تجاه المتظاهرين وحلفائهم العسكريين الشرفاء الجدد، والتزامهم بفكرة الاعتصام حتى تحقيق المطالب، وفي ظل الأزمة التي أوشكت على الانفجار، التهب الحماس وارتفع الصوت درجة تلو الأخرى والواقفون على حافة المذبحة، يهتفون هتاف (٩ مارس الشهير) ويصرخون مرفوعي الرأس بشجاعة الثوار (يسقط يسقط حكم العسكر .. احنا الشعب الخط الأحمر).

فجر اليوم التالي وصل رد المجلس الموقر عبر رجالاته الأفذاذ من سلاح الصاعقة والشرطة العسكرية، تم فض الاعتصام بالقوة (كعادتهم التي اكتسبوها بمرور الأيام) في هجوم أشبه بالاشتباكات الحربية، ولكن للأسف من طرف واحد، أصيب الكثيرون واعتقل الضباط، ولوث العسكري وأتباعه (مجددا) أيديهم بدماء الشرفاء والأبرياء من بني وطنهم، والمشهد يمر (وشاشات الكاميرات مغلقة عينيها بأمر الحاكم طبعا) وكأننا نشاهد قوات الاحتلال الإسرائيلية تهاجم معسكرا لللاجئين، حدثت المجزرة ووضع القلم، وصار الصديق (عدوًّا)، ثم خرج المجلس في هدوئه المعتاد يعرب عن أسفه عما حدث، ويبكي الشهداء الذين لو علموا ما يفعله لأعلنوا تبرؤهم منه قبل أن يولدوا وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

ملحوظة تاريخية، في صباح يوم ما عند حلول الساعة التاسعة وعشرين دقيقة، وقعت أفجع مجزرة في التاريخ المصري، ذراع طفل ملقاة هنا، وقدم آخر بجوار جثة محترقة هناك، مبنى من ثلاثة طوابق هدم بخمس قنابل وصاروخين حملت العار لمن ألقوها على مجموعة من الأطفال الأبرياء، قتلوا ثلاثين طفلا وأصابوا خمسين آخرين إصابات وصلت إلى حد الإعاقة، سالت دموع العالم كله حزنا عليهم، وحاولت محو آثار هذه المذبحة من فوق جبهة الأرض، تاركة جرحا غائرا في قلب الوطن، ومجموعة من تصريحات الأسف ودموع الثعابين الإسرائيلية الصهيونية، إنها مذبحة (مدرسة بحر البقر) التي حدثت يوم الأربعاء (٨ أبريل) من عام ١٩٧٠، وأعاد لنا العسكري ذكراها بعد مرور أكثر من أربعين عاما، ولا أجد ما أقوله سوى (تعددت المجازر و٨ أبريل واحد).

تعليقات القراء