صانع الفخّار أعطى لها ملامح الأنثى في شهور حملها الأولى .. غنى لها سيد درويش والشيخ إمام .. كل ما تريد معرفته عن «القلة القناوي»

الموجز - إعداد - محمد علي هتاشم 

غنـى لها الشيخ إمام "البحر بيضحك ليه .. وأنا نازلة اتدّلع أملا القلل"، كما غنّى أيضاً "سايس حصانك" والتى كانت تروى لنا كيفية تبخير "القلة" ليكتسب الماء نكهة مميزة ومذاقا خاصا : "سايس حصانك ع القنا وتعال تلقى القوليلة مبخّرة وملانة" ، كما كانت القلة من أساسيات جهاز العروس خاصة فى الصعيد ، فكان لابد أن يشتمل على صينية الفخار وعليها أربع قلل مزينة بالحلى ومعها قدرة السمنة البلدى المصنوعة من الفخار وقلل وأباريق خاصة بسبوع المولود هكذا تحدثت د. أمنية عامر عن القلة "إناء المياه" المصري الأصيل.

تقول أمنية عامر عن أصل القلة  : تذهب الأسطورة إلى أن صانع الفخّار أعطى لـ "القُلَّة" دون أن يقصد بعضا من ملامح الأنثى في شهور حملها الأولى ، وقد يكون ذلك هو ما جعل "القُلَّة" تتخّذ شكلها الشائع المعروف ، وربما كان هذا هو السبب فى ارتباط "القلة" بالأنثى في الصعيد وما هو سائد أيضًا في المعتقدات الشعبية ، لذلك ليس غريبًا أن تكون القُلَّة موجودة في أعياد السبوع خاصة للمولودة الأنثى ، بينما يؤخذ الإبريق في أعياد السبوع رمزا للمولود الذكر.

ومن الأسطورة الشعبية إلى الأساطير المصرية القديمة التى تذهب بأن صناعة الفخار تنسب إلى "الإله خنوم" إله الفخار وخالق البشر من الصلصال ، إذ كان المصريين القدماء يصوّرونه على هيئة شخص برأس كبش يجلس على عجلته (أو دولابه) التي تشبه آلة تشكيل الفخار ، وهى بنفس الهيئة التى نعرفها اليوم .

الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يشرب من القلة 

اما عن بداية هذه الصناعة الشهيرة ، فقالت أمنية عامر : بدأت صناعة الفخّار حوالى عام 4500 - 4000 قبل الميلاد ، وقامت صناعة الفخار في محافظة قنا على جغرافيتها التى تقوم على "الطَفلة" ، وهى عبارة عن صخور مترسّبة شائعة الوجود في محافظة قنا على جانبي وادي النيل ، من مدينة إسنا جنوبا إلى مدينة نجع حمادي شمالا ، ولكن المشكلة الأساسية في الحصول على "الطَفلة" أنها أصبحت نادرة الوجود ، مما دفع مجتمع الفواخرجية يتجه إلى استخدام تربة طينية بديلة في قرية "المحروسة" غرب قنا ، أو خلط التربة الطينية بالطَفلة ، ويعتبر اللون الأحمر هو اللون الأساسى أو الأكثر شيوعاً فى الفخار وهو اللون الطبيعى للطين الطَفلى عندما يحرق بسبب وجود نسبة من الحديد داخل مكوناته ، كما يرجع إلى تأثير النار على الطين تبعًا لنوع وكمية الشوائب الموجوده به .
تعتبر صناعة الفخار أحد أهم وأقدم الصناعات ومن أقدم الفنون التى ظهرت فى العصور القديمة التى ظلت محافظة قنا محتفظة بها وأضفت على بعض مراكز المحافظة صبغة خاصة ، وهى حرفة تعتمد على مواد خام موجودة في الطبيعة القناوية التى تتوفر فيها مواد صناعة الفخّار .

وعن مسمى القلل ، قالت أمنية عامر : مسمّيات القلل مختلفة عند الصناع ، فهي تأخذ أسماء : الحلوة والزعنونة والأمورة وقصدية ، وهذه المسميات المختلفة والأنواع المختلفة جعل للقلة المصرية "القناوية" (بالتحديد) مكانة خاصة ، وهو ما جعلها تتجاوز حدود الاستخدام لشرب المياه إلى استخدامها في وحدات البناء ، حتى أنهم شيدوا بها بنايات كاملة قديما ، وهم إلى الآن يوصون بكبسها بالملح قبل استخدامها في تبريد المياه ، حيث يمنع الملح الحشرات من الدخول إليها قبل وبعد استخدامها ، والطب الشعبي في الصعيد يحفل بالعديد من الوصفات التي تستخدم فيها القلّة للعلاج والشفاء .

صناعة الفخار في قنا 

صناعة الفخار في قنا لم تقتصر فقط على القلة ، بل هناك العديد من الأشكال ، منها : الزير والجرّة والبكلة والقلّة والزهرية والفازة والمرقسية والطاجن والزعافة والأبريق والمنطال ، الذي يستخدم في المطبخ لطهي الفول والعدس والبليلة وغيرها ، بالإضافة إلى الطواجن ، وهى شهيرة هناك باسم "الزبدية" ، كما أن هناك بعض الأنواع الأخرى مثل ماجور اللبن والبلاص وأيضًا حصالة الأطفال : فمركز قوص مشهور بصناعة الطواجن ، وقرى المحروسة والدير والترامسة والطويرات بمركز قنا اشتهرت بصناعة البلاص القناوي ، ونجع حمادي تمسّكت بزير الماء وماجور اللبن ؛ وتعدّ منتجات الفخار من أجود الصناعات الشعبية التي تشتهر بها محافظة قنا ، فهو منخفض التكلفة في إنتاجه وفي سعره النهائي للمستهلك ، وهناك بعض الأنواع من المنتجات الفخارية يتم تصديرها إلى بعض الدول العربية .

تتوقف فكرة التبريد على تبخّر المياه التى تتسرب من مسامات جسم القلة ، التى تمرّ صناعتها بعدة مراحل : حيث يتم إعداد الطين ووضعه فى أحواض كبيرة ، ثم تصبّ عليه المياه ويترك لمدة ساعتين تقريبًا ، وبعدها يتم خلطه واستخراج الشوائب منه ثم يصفّى ويترك حتى يتماسك ، لتأتى مرحلة الدولاب (أو العَجَلة أو الطاق أو القرص الدوار) وذلك بوضع الطين فى دولاب دوار كان يتم تحريكه قديمًا بواسطة اليد أو القدمين ، أما حديثــًا فيتم تحريكه بالكهرباء ، ويبدأ الفواخرجى فى تشكيل القطعة من أسفل إلى أعلى مع استمرار الدوران حتى يتم تشكيل الطين بالشكل المطلوب ثم توضع فى الفرن المخصص لذلك ، وهو على شكل كوخ يضيق في تصميمه العلوي حتى ينتهى بشكل قبة ، وصمّمت تحت أرضية هذا الفرن سواقى ومسالك هوائية لتوصيل حرارة اللهب تحت أرضية الفرن ، وتتواصل هذه المسالك بفتحات جانبية إلى داخل الفرن لتحيط بجدرانه من الداخل بنفس درجة الحرارة السفلية لضمان وصول الحرارة واللهب على الفرن من جميع الجهات ، وللفرن باب صغير هلالي الشكل يتسع لدخول شخص واحد​ . وكثيرًا ما يبدع صانع الفخّار فى زخرفة منتجاته وتزيينها برسوم نباتية وحيوانية وأشكال هندسية وكتابة الحكم والأدعية ؛ وقد اكتسبت "قنا" من محلّيتها موقعًا متميزًا على خريطة الصناعات الحرفية على المستوى العالمي ، وأصبحت "القلة القناوي" و"المنطال" و"الزبدية" تحمل ختم "صنع في قنا".

أهم ما كان يميّز شرفات البيوت المصرية 

وتعتبر "القلّة" أهم ما كان يميّز شرفات البيوت المصرية خاصة فى المناطق الشعبية ، حتى ظهرت الثلاجات فى كثير من البيوت فى المناطق الغنية والفقيرة على حد سواء ، وكان يضاف على الماء فيها رائحة الزهر أو رائحة الورد أو أوراق النعناع الطازجة أو يتم تبخيرها بالمستكة ، ثم توضع في صينية القلل وتغطّى بغطاء نحاس يشبه العمامة ، وتوضع في البلكونة أو الشباك أو المشربية فتكتسب المياه فيها برودة تفوق أقوى الثلاجات ، وفي الموروث الشعبـي سماها المصريين "المليحة" ، وفى أمثالهم أن الضيف الثقيل "تكسر وراه قلة" احتفاء برحيله ، و "روّق القناني” أى "خلّى بالك رايق أو صافى" ، وكان ترويق الماء يتم بوضع قطعة "شبّة" صغيرة في القلّة أو الزير المملوء بالماء كما يحدث في محطات تنقية المياه .

كانت "قنا" تضم حوالى 500 صانع من أمهر صناع الفخّار، فضلاً عن 1500 شيّال وعجّان وحرّاق ، إلا أن عددهم تقلص بشكل واضح ، مما يجعل هذه المهنة تواجه الانقراض في جميع أنواع صناعات الفخار ، ولكن تظل "القلّة" هى قنّينة الماء المصنوعة من الفخار تراثًا مصريًا أصيلاً تتمسّك به كثير من المناطق فى مصر إلى الآن ، واتخذّت من الطمى وماء النيل وسيلة بسيطة لصنعها ، كما أنها تعبّر عن الملامح المصرية وارتبطت بحضارة وادى النيل ، وهى مع صناعات الفخّار عبّرت عن احتياج السكان للفخار في طهى الطعام وحفظ المياه وتبريدها ... و"مليحة جوى الجُلل الجِناوى..."

تعليقات القراء