التاريخ الأسود لسيول «الصعيد» .. «القضاء على قرية كاملة عام 1994 والضحايا 1000 قتيل»

الموجز

إختفت شوارع محافظات مصر من المارة وتوقفت الحياه تماما بسبب الطقس العنيف الذي يضرب البلاد وهى ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها مصر لطقس سيئ وعواصف شديدة وسيول ضخمة .

فمن ينسى سيول درنكة والتي سحقت قرية بالكامل وتسببت في اشتعال النيران في مخازن وقود فتحولت لجحيم بمعنى الكلمة .

يل درنكة 1994

تقع "درنكة" بمحافظة أسيوط بسفح الجبل الغربي ودمرت السيول 9 مخازن ممتلئة بما يقرب من 40 طنًا من الوقود الذي طفى على سطح المياه ليتحول إلى سوائل مشتعلة أغرقت القرية وقضت عليها في أقل من 3 ساعات.

وحسب إحصائيات الجهاز المركزي ومديرية الصحة "لم ينجوا أحد" وتوفي 300 شخص، وما يقرب من 50 آخرين تم فقدهم بعد أن انصهرت جثثهم تمامًا وإصابة 65 من أهالي القرية، وعددد المنكوبين 3371 مواطنًا، ونتج عن تلك الكارثة فقدان 440 أسرة منازلها وتلف ما يقرب من 20 ألف فدان ونفوق 3200 رأس ماشية وانهيار وتصدع الطرق والكباري بحسب ما نشرته البوابة نيوز.

وتكرر نفس السيناريو بتلك القرية عام 2014 وتسببت السيول في غمر 5 آلاف فدان من الأراضي الزراعية بالمياه، ما أدى إلى غرق المحاصيل وإتلافها، وهدمت المياه العديد من المنازل ونفوق الكثير من الحيوانات، لتبقيا تلك الحادثتين عالقتين في أذهان أهل القرية حتى يومنا هذا.

وفي 2014 نرت اليوم السابع عن كارثة 1994 ، بقلم سارة علام تحت عنوان 

ذكريات طفلة حول كارثة درنكة عام 94 تتكرر فى سيول أسيوط.. الأمطار تهطل على مستودعات البترول.. النار تطوف القرية ممتطية الطوفان.. الكارثة تخلف ألف قتيل.. والدولة لا تزال خارج الخدمة

الثالثة فجرا، مطلع نوفمبر خريف عام 1994، مدينة أسيوط توقظنى أمى، فى الثالثة صباحاً، بفزع أستيقظ على صوت السيول تضرب منزل جدتى القديم فى منتصف مدينة أسيوط، "أصحوا يا عيال.. المطر بينزل القيامة قامت.. قوموا يا عيال".

أترك سريرى، وأركل أخى الغارق فى النوم ليفيق، ونشارك أمى وخالتى وجدتى كارثة منزل قديم، صدر له قرار إزالة من الحى، وقد ينهار علينا بعد دقائق.

مروحة السقف تمطر، يخرج سيل من منتصفها تماما، تصرخ خالتى "هنتكهرب.. هنتكهرب.. الماس هيولع فينا"، أهز طرف ثوبها ببراءة طفلة فى الرابعة وأسالها خالتو يعنى أيه ماس، تصرخ ولا تلتفت.

أمى كبيرة العائلة، تقرر أن تأخذنى وأخى وجدى وجدتى وخالتى، لبيتنا القريب، تركناه بعد هجرة أبى للخليج والتحقنا بجدتى.

ننزل فورا بملابس النوم، أمسك أخى بيدى اليمنى، وتحاول أمى أن تخرج جدى وتمسك خالتى بجدتى، نقف بعيدا عن المنزل حتى لا يقع فوقنا تحذرنا أمى، نقابل تاكسى وحيد، يشترط أن يأخذ 20 جنيها ليوصلنا وكانت التعريفة جنيها وقتها، تنهره أمى: "خد اللى أنت عايزه ووصلنا بسرعة".

أمام عمارتنا الحديثة، نحاول أن نفتح بابا حديديا متينا يغلقه السكان ليلا، خشية السرقة، تفتحه أمى وتعاونها خالتى، تندفع المياه فى وجوهنا وتصل حتى منتصف ملابسنا تماما، نصعد السلالم بحذر، تؤكد أمى "خدوا بالكم عشان متتزحلقوش"، يحاصرنا صوت السيول المفزع كلما صعدنا دورا، نصل الدور الرابع وندخل منزلنا بسلام.

تفصل أمى الكهرباء، خشية أن يطولنا الماس ونحن فى الدور الأخير، نجلس ونخاف صوت المطر، نخشى النوم، وتبكى جدتى منزلها الذى سيسقط حتماً وستضيع كل أشيائها القليلة، أثاثها القديم، منزلها، مقتنياتها، وحتى محل جدى أسفل المنزل وبضاعته ستذهب أيضا.

يتصل أبى مفزوعا من الخليج يسأل عنا، نقول له إننا بخير، وأننا فى منزلنا نستعصم بالبيت، وننتظر خبر سقوط منزل جدتى الكبير القديم.

يطلع الصبح بطيئا ولا يهدأ المطر، تتصل خالتى بفندق يجاور منزل الجدة، وتسأل "البيت اللى قدامكم القديم وقع ولا لأ؟، يطمئنها الرجل ويقول لا موقعش زى ما هو.

تفرح جدتى، وتطمئن، نسمع عن أقارب لنا فى درنكة الجبلية، معارف أبى، وشركاء عمل، تأتينا أخبار عن موت وحريق وأهوال يحكيها جارنا الريفى، الذى صعد ليسألنا إن كنا نحتاج لشىء.

تأتى الأخبار فى التليفزيون متأخرة، لا فضائيات ولا إنترنت فى مطلع التسعينيات، درنكة الجبلية القريبة تغرق الناس تموت، تخطأ مذيعة الأخبار دائما وتنطقها درينكة، ولا أحد يعرف شيئا عنا فى صعيد مهمش.

درنكة قرية صغيرة غرب مدينتنا الكبيرة، بنيت فى مخر السيل، منازل ريفية من الطوب اللبن أغرقها السيل تصور الأهالى أن ما يقتحم منازلهم هى مياه السيل، لم يكن أكبر المتشائمين يتصور أن المياه لم تأت وحدها، بل جلبت شرارة الموت معها.

فى مخر السيل، بنت الحكومة مستودعات وقود، اشتعلت فور هطول السيل، اختلفت الأقاويل فى أسباب اشتعاله، هل هى صاعقة أم شرارة كهربائية أم خلافه تعددت الأسباب والموت واحد، دقائق قليلة وتحولت القرية إلى كتلة مشتعلة من النيران.

نار درنكة يصل أسيوط، نراها من فوق أسطح منزلنا العالى، دخان مقبل من الجبل البعيد، دخان يأكل الفلاحين بقلوبهم الخضراء، وفقرهم الكبير، ثم تأتى سوزان مبارك لتركب الكارثة كما اعتاد نظام مبارك أن يفعل بنا.

تأتى السيدة الأولى، وتزور قتلانا، وتتعطف علينا من أموالنا، وتبنى لمن تبقى من الضحايا مساكن جديدة فى الجبل بعيدة عن السيل، تطلق عليها سوزان مبارك.

الثامن من مارس 2014، تليفونيا من أسيوط إلى القاهرة تبكى أمى، تخاف المطر، منذ تلك الليلة البعيدة، تهاتفنى وتسأل عن أوضاع القاهرة وأخى، أقول إننا بخير وأن القاهرة بعيدة عن السيل تذكرنى بمأساة نوفمبر 1994، كيف قتل السيل جيراننا، أتذكر كل شىء كأنه اليوم.

لا شىء يتغير، تبقى أسيوط كما هى، مدينة مهمشة بعيدة عن العاصمة الكبيرة، مدينة كلما نزل فيها سيلا غرق أولادها أو احترقوا، أو هربوا إلى القاهرة بحثا عن فرصة عمل أو لقمة عيش سائغة كما فعلت وأخى.

 

تعليقات القراء