مروان يونس يكتب: لعل تكون أزمة فاهيتا خير

 
أثارت حلقة أبلة فاهيتا قبل الأخيرة حفيظة الكثير من المصريين و بالأخص الإعلاميين بالدولة و الذين انتفضوا بكل غضب و شهامة للدفاع عن مؤسستهم و هي ماسبيرو ، فهذه المؤسسة و التي تسمى حاليا أجهزة إعلام الدولة جزء من تاريخ الإعلام في مصر فهي أول من اطلقت رسائل البث بل رسائل التنوير سواء لمصر أو للعالم العربي ، فكانت منارة للعلم و التثقيف و حتى التوجية و الارشاد ...
 
بنيت أساسات و منشآت ماسبيرو على أحدث أسس الهندسة في وقتها بداية من الهندسة الانشائية و التي كان لعبد الناصر السبق في استخدام أحدث الوسائل و النظريات فيها وصولا للأجهزة و التوصيلات و نوعية البث و لم يبخل فيها أيضا نظام ناصر  فكانت على أحدث الطرز العالمية ، معبرة عن بداية مرحلة التنوير بل متحدثا عن ثورة 1952 و أحلامها ،
 
لم يبخل ناصر أيضا في أي شيء فالتليفزيون حينها لم يعرف الاعلانات بشكل كبير و كان العالم الاشتراكي الذي ننتمى اليه حينها يرى ان الدولة لابد أن تحتكر الاعلام و ادارته و أن لا يكون بهدف الربح فالهدف الأعلى و الاسمى هو الحفاظ على النظام ، و من ذلك كان للتليفزيون شكلا اداري و سياسيا يخدم هذا الهدف و تلك التوجهات ...
 
و من أجل ذلك فرض الأمن سيطرته ووجه المحتوى و تدخل في كل شيء ، و لا نلوم على ذلك و لا يجب أيضا أن ننتقد فما تم كان أمرا محمودا و عرفا لعصر مضى لم يكن فيه رأس المال هو الحكم أو العمل منأجل الربح الهدف ...
 
لم يكن ماسبيرو مصنعا للمواد الفنية و الترفيهية و التثقيفية فقط بل كان مصنعا للكفائات الإعلامية بانواعها بداية من مذيعين إلى معدين إلى فنيين إلى إداريين فلم يكن في مصر سبيل لممارسة الإعلام أو احتراف تلك المهنة إلا من خلال قنوات شرعية و هي قنوات الدولة المصرية ...
 
و مع تطور الزمن و حذو دولا عربية عديدة حذو مصر و انشاء منابرها الإعلامية هاجرت بعض الكفائات من ماسبيرو لتبني تليفزينات تلك الدول و لكن كانت تلك الدول أيضا محترفة فاستغلت تلك الدول قدرات الفنية و الفكرية و الادارية لابناء ماسبيرو و كانوا العامود الرئيسي في البناء و لكن كانت تلك الدول محترفة بشكل كافي لتدرك أن استنساخ البناء الإداري لماسبيرو في لحظة زمنية أخرى سيكون غير ماسب ، فأدركت الواقع و بنت أجهزتها على شكلا اداريا مناسبا للحظة ولادة تلك المحطات ، و في لمح البصرتعايش المصريون الاكفاء مع تلك التطورات و كانوا القوام الرئيسي لتلك الصناعة في المنطقة ...
 
تطور الزمن تطورا جديدا مع إنشاء مدينة الانتاج الإعلامي و التحول القناعاتي الدراماتيكي للإعلام من خدمة تقدمها الدولة لسلعة تحت العرض و الطلب ، تحول كبير من احتكار للدولة للخبر الى السماح لتداولة بقنوات خاصة فضائية ، تحول ظهر فيه رأس المال المال كلاعب رئيسي بدلا من الدولة ، تحول ظهر في فترة زمنية جديدة و بفكر جديد و بأهداف جديدة لم تدرك الدولة تأثيرها على ماسبيرو أو اعلامها ...
 
اتجه ابناء ماسبيرو لهجرة جديدة داخلية لمدينة السادس من أكتوبر ، هاجروا لبناء تلك القنوات ، بناء كاملا سواء اداريا أو فنيا و تحت لواء و شعارا جديدا و هو الحرفية و الربح ،  اداروها العمل لرؤوس الأموال حسب المعطيات الجديدة و حسب الاهداف الجديدة بل و طوروا انفسهم و حرفتهم الادارية ليدركوا اللحظة الزمنية و ليواكبوا العصر بكل مرونه ...
 
مر الزمن و ظل ماسبيرو مصنعا لانتاج البشر بل مصنعا لحرفة الإعلام و لكن بكل أسف لم تدرك الدولة المديرة لماسبيرو أي لحظة زمنية مرت بها سواء اللحظة الأولى و هي لحظة التنازل عن احتكار الحقيقة الاعلامية بالمنطقة و ظهور أجهزة إعلام اخري سواء بالخليج أو الدول العربية ، كما لم تدرك اللحظة الزمنية الثانية و هي تحول الاعلام لسلعة تحت العرض و الطلب و منها تغير نوعية المشاهد ،
 
لم يتواكب ماسبيرو القائد و المعلم مع الزمن و رفض قبول فكرة المنافسة الجديدة و رفض قبول فكرة الربح و ظل يحافظ على معبده الاداري مرهقا الدولة بمصروفات باهظة مستقطعا من ميزانية الدولة بنهم شديد ارضاء لما به من أجهزة بمفهومها الشامل و التي لم ترث مرونة الافواج المتحركة منه سواء نحو الخليج او سواء لرأس المال ، معتقدين أن الحفاظ على الموروث الاداري هو معركة بقاء ...
 
لا ألوم عليهم كثيرا فقد مر بالدولة المصرية لحظات و فرص كثيرة كانت تسطيع أغتنامها و تمرير قرارا اداريا يفرض على قيادات ماسبيرو التي تمتلك الحرفية المناسبة أن يتحركوا داخليا نحو التحديث و مواكبة العصر سواء لمواكبته إداريا أو فنيا لبناء شكلا جديدا و مناسبا للواقع و الأهم مناسبا لاليات السوق و التي تحكم الاعلام حاليا ...
 
كما لن ألوم فاهيتا على الهجوم و لن ألوم العاملين بماسبيرو على الدفاع المستميت و لكن الوم الدولة التي لم تقدم أي مشروع مناسب يحفظ حق هذه المجموعات في العمل براحة داخل الجهاز و يحفظ حق المواطن المصري في عدم إهدار الميزانية و يحافظ على حقه ايضا في الحصول على منتج اعلامي نظيف ، هذا الدور هو الدور السياسي المفقود أو الذي افقدته الاحداث سواء البطيئة بعصر مبارك أو ذات السرعة الجنونية فيما بعده من عصور ...
 
لعل تكون أزمة فاهيتا خيرا على الجميع ، فنحن نريد إعلاما وطنيا قويا و مؤثرا و في نفس الوقت نريد جهازا ناجحا فبقاء الوضع كما هو عليه لن يؤتي الا بمزيد من إهدار المال و مزيد من الهروب للمشاهدين من إعلام الدولة بل مزيد من هروب للكوادر و هي أمور غير مقبولة في ظل هذه اللحظات الفارقة و التي اتمنى أن يدركها الجميع هذه المرة ...
تعليقات القراء