بلال فضل يكتب: تسقط النرويج وتحيا الزبالة!

نقلا عن العربي الجديد

كنا نُسميه "فتى الكهف"، مع أنه لم يعتزل كل ما حوله، بفعل نوم إجباري داهمه، وإنما بفعل احتقار اختياري لكل ما يحيط به، حتى أنه لم يعد يشاهد فيلمًا أو مسلسلاً أو يقرأ كتاباً أو رواية، إلا ما تم إنتاجه وصدوره قبل عام 2002، وهو العام الذي قرر، في مطلعه، ألا يهتم بكل ما يحدث في مصر، بعد تعرضه لصدمة عصبية حادة، حين شاهد صوراً بشعة للجثث المتفحمة في قطار الصعيد، الذي احترق فيه أكثر من 350 مواطناً، فلم يُسجن، في إثر ذلك، مسؤول واحد، ولم يعد يتذكّرهم، بعد أقل من أسبوع، سوى أهاليهم. ومن يومها، قرر صديقنا أنه سيعيش في مصر كأنه نبتة سرخس عائمة، أو ذبابة فاكهة، أو طحلب أحادي الخلية، أو أي كائن حي، لا يعنيه معرفة أين يعيش، بقدر ما يعنيه أن يكمل مدته في الدنيا بسلام، محولاً بيته إلى فقاعة، يعيش فيها على قفا أهله الميسورين، رافعاً شعار "اللي عايزني يجيني، أنا ما باروحش لحد"، ومشترطاً على كل من يزوره، أو يتصل به، أن يقتصر الحديث على الفنون والآداب والتاريخ والتكنولوجيا والهلس المبين. وحتى المناسبات الاجتماعية الضرورية، من عزاءات وأفراح، لم يعد يحضرها مع تطور التكنولوجيا، بل أصبح يحضر مراسمها عبر "سكايب"، وهو جالس على كنبته، أحب بقاع الأرض إليه. 
 
لذلك، كان "فتى الكهف" المِجَسّ الأمثل لتجربتي العلمية حول مدى تأثر كتابة الكوميديا بما حدث في سنوات العبث الدامية، التي نعيشها. اتصلت به، وقلت له إنني أريد أن آخذ رأيه في فيلم عبثي، سأستلهم فيه تجارب أستاذنا الكبير، رأفت الميهي، التي نشترك في محبتها. وبعد تمنّع قصير، بدأ يسمع فكرة الفيلم الذي يحكي عن شاب ضايقته أكوام الزبالة التي تحاصره في كل مكان، فقرر أن يكون إيجابياً، وذهب إلى مقر المحافظة، ليقدم شكوى، تطالب بلمّ الزبالة من الشوارع، ليفاجأ أمام باب المحافظة بالمحافظ يقف وسط مساعديه، مصفقين لفتيات بالزي الفرعوني يرقصن بإخلاص على أنغام أغنية وطنية، وعلى مقربة منهم يقف شخص يشبه أنور السادات، يحمل في يده اليمنى "بايب"، وفي اليسرى ميكروفوناً يشجع فيه بانفعال شباباً يرتدون ملابس مموهة، ويحركون، بالريموت كونترول، سياراتٍ، ألصقت عليها مجسمات كرتونية، لكي تعبر كومة رمل كبيرة، ويقومون بدفع السيارات، حين تفشل في عبور كومة الرمل، في حين يصرخ شبيه السادات في الجمع: "ها هم أبنائي يعبرون ببسالة خط بارليف، بينما قام إخوتهم بحفر 122 مليون متر مكعب في قناة السويس الجديدة، حتى الآن". 
يصرخ الشاب في المحافظ أن يلم الزبالة من الشوارع، بدلاً من إهدار المال العام على هذا العبث، فيشير له المحافظ بإصبعه الأوسط صارخاً "أجيب لكو منين"، وحين يصفق الجميع، يخطف المحافظ الميكروفون من شبيه السادات، ويهتف "يسقط أعداء الوطن.. تسقط الزبالة"، فيجري الشاب نحوه صارخاً "ما هي المشكلة إنكو سايبينها تسقط وتملا الشوارع، يا معفنين"، فتخرج كتيبة قوات خاصة من قلب صندوق زبالة أرضي عملاق، افتتحه المحافظ مؤخراً، لتقبض على الشاب، وتودعه سيارة مصفحة، لتنقله إلى محكمة متخصصة في أحكام الإعدام، ليقابل داخلها معداً تلفزيونياً في برنامج "صباح الخير يا مصر"، يُحاكم لأنه ساعد أعداء الوطن على تشويه سمعة مصر، حين استضاف جرّاح أورام للحديث عن مستقبل النيل، بصفته خبيراً مائياً. 
 
يقرر بطلنا الابتعاد عن المعدّ، ليجلس إلى جوار رجل كبير توسّم فيه العقل، ليفاجأ بالرجل يقول باكياً إنه مقبوض عليه بتهمة التخابر مع النرويج، فيطمئنه بحتمية البراءة، لأن القضية فشنك، فالنرويج لا يمكن أن تكون مهتمة إلا بتحسين نوعية سمك السلمون، الذي تصدره إلى العالم، من دون أن يعرف الشاب أن حديثه الهامس الودود سيعتبر دليلاً على ضلوعه في التجسس للنرويج، التي دفعت مبلغاً ضخماً له، لكي يستفز المحافظ، فيقوم بتلعيب إصبعه الأوسط للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة. ينهار الشاب تحت وطأة التعذيب الذي تعرض له، لكي يعترف بالتخابر، وينتهي الفيلم به، وهو يمشي عارياً في شوارع المدينة، وسط أكوام الزبالة، هاتفاً "تسقط النرويج... وتحيا الزبالة". 
 
للأمانة، لم أتوقع أن يثير ما قلته غضب صديقي، الذي اتهمني بعدم فهم الفرق بين العبث الفني والتخريف الأهبل، وحين اضطررت إلى أن أقول له إن كل ما رويته له مستلهم من أحداث واقعية مائة في المائة، تفوه بألفاظ نابية قاسية، لا يصلح منها للنشر سوى قوله "انت فاكرني ابن متسخة مغيّب عشان أصدق إن برنامج صباح الخير يا مصر لسه شغال". 
 
يا ضيعة الكوميديا فيكِ يا مصر.
 
تعليقات القراء