بلال فضل يكتب: خطاب إلى الرجل الصغير: أهدافك الكبيرة لن تحققها أبدًا وسائلك الوضيعة (2)

منشور في "التقرير " اليوم

مع أن قراءة ما يكتبه عالم النفس الألماني فيلهلم رايش في كتابه الشهير (خطاب إلى الرجل الصغير) ليست من القراءات التي تجلب السرور وتبعث على الحبور، لكنها يمكن ـ مع بعض التحايل على النفس ومحايلتها ـ أن تحمل لك في الوقت نفسه بارقة أمل، حين تدرك أن ما نعيشه في أوطاننا من واقع متعفن، عاشته من قبلنا شعوب أصبحت متقدمة، لكنها لم تصل إلى حلول للكثير من مشاكلها إلا بعد أن اكتوت أولا بنيران عدة كان من بينها نيران الفاشية التي لم تتخلص منها إلا بعد أن دفعت ثمنا غاليا لا نتمناه لشعوبنا.

وبغض النظر عما إذا كنت ممن يعتقدون أن دفع ذلك الثمن الباهظ أمر حتمي لحدوث أي تقدم، أو إذا كنت ممن يعتقدون ـ أو يتمنون ـ بإمكانية التعلم من تجارب الآخرين دون تكرار أخطائهم، ففي الحالتين ستجد الأمل يخايلك وأنت تقرأ صرخات فيلهلم رايش الإنفعالية الحزينة في مواطنيه من الرجال الصغار، حين تتذكر أن ذلك الواقع الكابوسي أصبح جزءا من الماضي البغيض الذي لم يعد يحلم بعودته في تلك الأوطان إلا الحمقى والمرضى، وأن صرخات رايش التي كان يظنها كثير من معاصريه صرخات بائسة ستذهب أدراج الرياح، لم تذهب سدى؛ بل بقيت حتى عصرنا هذا ملهمة، بل وصالحة لأن نصرخ بها في وجوه رجال أوطاننا الصغار، لعلهم يفيقون قبل فوات الأوان.

لم يخاطب فيلهلم رايش كل رجل صغير في زمانه وزماننا بتعالٍ أو باحتقار، بقدر ما كان يبحث في ثنايا خطابه الانفعالي عن توصيف دقيق لمشكلة هذا الرجل الصغير التي تجعله يتسبب في تعاسته وتخلف وطنه، وهو يظن أنه يحسن صنعا، لم ينكر رايش على الرجل الصغير قدرته على أن يعيش لحظات كبيرة إذا أراد ذلك، بل وأقرّ له بأنه يمكن أن يعرف الارتقاء والسمو، لكن مشكلته أنه لا يملك طول النّفَس الذي يجعله يحافظ على ارتقائه ويستمر في سموه، ولذلك يصرخ رايش في مواطنه الصغير بمزيج مركب من المشاعر: “إنني أريدك أن تتوقف عن الوجود كرجل صغير، أن تصبح أنت، أقول لك: أن تصبح أنت، وليس كما تريدك الجريدة التي تقرؤها، أو جارك السيئ الذي تصغي إليه، ولكن أن تكون أنت… إنك تتسول السعادة في الحياة ولكن الأمن أهم بالنسبة لك، حتى لو كلفك ذلك عمودك الفقري، حتى لو كلفك حياتك كلها، ولأنك لم تتعلم يوما كيف تخلق السعادة، كيف تتمتع بها، وكيف تحافظ عليها، لا تعرف شجاعة الصمود.. إنك تخطئ دائما التفكير وبشكل حتمي كلما فكرت بالحقيقي والجوهري، مثل رجل خبيث يصوب دائما بالذخيرة الحية وبطريقة خاطئة نحو الهدف“.

وفي موضع آخر يتأمل رايش ما قام به من مجهودات كمثقف في جعل حياة مواطنيه أفضل، لكنه في نفس الوقت يحاول فهم سر فشل تلك المجهودات، معترفا بخيبة أمل أن الرجل الصغير فشل في إدراك الإرتباط الحتمي بين الحرية وتطوير الاقتصاد، مؤكدا أنه يؤمن بأهمية تطوير الاقتصاد إذا ما أراد الرجل الصغير أن يتمتع بحياته، لأن الجوعى لا يمكنهم تطوير الثقافة، لكن مشكلة الرجل الصغير أنه لم يدرك أن كل عوامل الحياة ضرورية وليس العوامل الاقتصادية فقط، وأن الاقتصاد لن يتطور إلا إذا تمكن الرجل الصغير من حماية نفسه ومجتمعه من الطغيان، وحين يفكر رايش لماذا حدث هذا، لا يجد أمامه في نوبة غضب إلا أن يعلن أنه أخطأ حين اعتقد بقدرة الرجل الصغير على تحرير نفسه ثم حماية حريته حين يحصل عليها، لكنه اكتشف في نهاية المطاف أن الرجل الصغير لم تعلق بذهنه من بين كل الكلمات التي قالها سوى كلمة واحدة هي: الديكتاتورية، في حين طرح جانبا كل ما قاله له من كلمات ومفاهيم مثل الحرية والشفافية والقضاء على العبودية الاقتصادية والاستمرار في تطوير منهجه في فهم الحياة.

كل هذا طرحه الرجل الصغير ليؤمن بأن تطوير اقتصاده لن يتحقق إلا بتطبيق شيء واحد هو الديكتاتورية، ولذلك وافق على صناعة “نظام عملاق من الكذب، المطاردة، السجن، التعذيب، الجلد، البوليس السري، التجسس، الغرور، سلاطة اللسان، المارشات والأوسمة”، متخيلا أنه لو ظل صغيرا إلى الأبد سيحصل على السعادة، دون أن يدري أنه بموافقته على ذلك يجهز تماما على فرصته في السعادة.

وحين يصف فيلهلم رايش سلوك مواطنيه الصغار تجاه كل من يحاول أن يقول لهم أفكارا مختلفة عما يرون أنه الأسلم والأصوب، تشعر بذلك الأسى المختلط ببارقة الأمل الذي حدثتك عنه، حين تكتشف أنه يصف ما يحدث في زماننا بحذافيره، انظر إليه وهو يقول مخاطبا رجل زمانه الصغير: “أنت تهرب من الحقيقة أيها الرجل الصغير، لأنه بإمكان الحقيقة أن توقظ الإحساس بالحب في داخلك، لكنك لا تريد ذلك، تريد فقط أن تظل مستهلكا ووطنيا، تصرخ “اسمعوا اسمعوا إنه ينكر الوطنية، حصن الدولة المنيع وخليتها التي هي العائلة ولا بد من القيام بشيء ضده“.

هكذا تصرخ إذا ما ذكرك المرء بانغلاقك الروحي، إنك لا تريد أن تعرف أو تسمع ذلك، تريد فقط أن تصرخ أو تهتف، إني أتركك تصرخ لكنك لا تتركني أقول لك لماذا أنت عاجز عن العيش في سعادة؟ إني أرى الخوف يشتعل في عينيك، ذلك أن سؤالي يصيبك في الصميم، أنت مع “التسامح الديني”، تريد أن تكون حرا وأن تحب ديانتك، إنه شيء جيد وجميل، لكنك تريد أكثر من ذلك، إنك تريد أن تقيم الصلاة فقط كما بينها دينك، إنك متسامح تجاه دينك، ولكن ليس تجاه الديانات الأخرى. لا أحد أيها الرجل الصغير أخبرك لماذا لم تحقق حريتك حتى الآن، ولماذا إذا حدث وامتلكتها سرعان ما تتنازل عنها إلى سيد جديد. تصرخ: “اسمعوا اسمعوا، إن نفسه تسول له الشك بالثورة، بالديمقراطية، لتسقط الثورة والثورة المضادة، لتسقط لتسقط، ليسقط إنه يوسخ شرف الأمة، ليسقط، اعدموه بالرصاص“.

اهدأ قليلا أيها الزعيم الصغير، صراخك هذا لن يقربك خطوة من هدفك، أيها الرجل الصغير، إنك تعتقد لحد الآن بأن حريتك في مأمن إذا ما أعدمت الآخرين، فلتنظر مرة واحدة إلى المرآة… تصرخ: “ليسقط” توقف أيها الرجل الصغير، إنني لا أريد النتقاص من قدرك، أريد فقط أن أوضح لك لماذا لم تحصل لحد الآن على حريتك، ألا يهمك هذا الأمر؟ أنت تفهم الوقاحة كحرية، كان ذلك دائما علامة العبيد، وتمتنع استنادا إلى حريتك تلك عن إرسال تقارير حول عملك، ذلك أنك تحس نفسك حرا من التعاون والمسئولية، ولهذا أنت كما أنت أيها الرجل الصغير، والعالم هو هو”.

وحين يتأمل فيلهلم رايش الموقف العدائي لمجتمع الرجال الصغار بالأفكار الجديدة والآراء المختلفة، ويستعيد ما تعرض له من اضطهاد شديد بسبب أفكاره المختلفة الجامحة، يتوصل إلى أن مجتمع الرجال يرحب أحيانا بأن يكون هناك عباقرة مختلفون عنه، لكنه يريدهم دائما “عباقرة طيبين على مقاسه وغير مثيرين للقلاقل، باختصار عبقري ملائم ومتكيف وليس متمردا وغير قابل للتدجين ليس ثائرا على كل القيود والحواجز، عبقري محدود مختصر مشذب مرتب، يمكن للمجتمع أن يخرج به دون أن يحمر خجلا في مواكب النصر السائرة في شوارع المدينة”. ولذلك لا يتسامح هذا المجتمع مع كل من يقول له أفكارا تربكه وتختلف معه وتقلق راحته، ويسعى لسحقهم حفاظا على شرفه الوطني، وحين يقول له هؤلاء “الرجال الوحيدون” كما يصفهم رايش ما يجب فعله، يقوم بتدميرهم ويصر على الإمساك بالخطأ الصغير، لا الحقيقة الكبيرة، ولذلك كما يقول رايش مخاطبا مواطنه الصغير: “ما زال بيتك يرتفع فوق الرمل وما زال سقفه يتساقط فوق الرأس ولكن بالطبع فإن ما يهمك هو شرفك الوطني، تغوص أقدامك في الوحل، تهوي أرضا لكنك لا تتوقف عن الصراخ بحياة الزعيم وبشرف الأمة، ماسورة الماء تتحطم وطفلك مهدد بالغرق لكنك ما زلت تؤمن بالعقوبة والنظام مستعملا العصا في تلقينهما لطفلك”.

وفي مواجهة تلك الصرخات البائسة بحياة الزعيم، يصرخ رايش في وجه مجتمعه بعزم ما فيه، مطالبا إياه بأن يضحي بأوهامه من أجل قطعة صغيرة من الحقيقة، أن يمسك مصيره بقبضته ويبني حياته على الصخر، أن يخلق قانونا يحمي الحياة وما عليها، أن يفكر بطريقة سليمة، وألا يسلم حياته لأحد آخر، خصوصا لزعمائه، وأن يدرك أن الوعي الذاتي أفضل من الوعي القومي، وأن التواضع أفضل من فم مليء بالشعارات القومية أو أي نوع من أنواع الصراخ، لكنه يدرك أن صرخته تلك لن تجد آذانا صاغية وسط ضجيج صراخ الزعماء، وأن مجتمعه سيظل يرفع ويمجد زعيما بعد آخر، وسيظل يسفك الدماء في الوقت الذي يتوجب فيه صون الحياة، فلا يملك إلا أن يواصل صرخته الحزينة في وجه الرجل الصغير: “سوف تعتقد أنه بمساعدة جلاديك ستحقق الحرية وستجد نفسك دائما غارقا في الوحل، سوف تعدو عبر القرون خلف زعمائك المأخوذين بجنون العظمة وتتقوت على كلماتهم المغرية، وأمام الحياة التي تناديك وتصرخ بك، ستظل أعمى، أصمّ، ذلك أنك تشعر بالخوف من الحياة الحية، سوف تقتلها ظنا منك أن تبني الدولة أو الشرف القومي أو شرف الرب، شيء واحد لن تعرفه ولن تطلب معرفته: أنك أنت وحدك من خلق هذا البؤس، كل ساعة كل يوم دون توقف، إنك لا تفهم أطفالك، فأنت تحطم عمودهم الفقري، بدل أن تزرع فيهم الشجاعة وروح الإقدام، إنك تسرق الحب، إنك لا تحب سوى المال وتدمن على السلطة، وإنك لتحتفظ بكلبك، فقط لكي تقنع نفسك بأنك أنت الآخر “سيدا“.

لا يبالي فيلهلم رايش بحقيقة أن صوته سيذهب أدراج الرياح، ولا يبالي بطلبات الكثرين منه أن يسكت لكي لا يفسد بهجة الإجماع التي يشعر بها الرأي العام، بل على العكس تماما يقف بكل شجاعة محذرا رجال وطنه الصغار بألا يدعوا الإجماع يخدعهم عن حقيقة المصير المفزع الذي يقذفون ببلادهم إليه، قائلا لهم: “الأهداف الكبيرة لا يمكن أن تحققها الوسائل الوضيعة، إن وضاعة ولا إنسانية الوسيلة تجعلك حقيرا ولا إنسانيا، وتجعل من الهدف أمرا مستحيلا، إن تفكيرك قصير النظر أيها الرجل الصغير… إنك لا تذكر الأشياء التي وقعت منذ عشر أو عشرين سنة، ولهذا السبب تكرر نفس الأخطاء التي اقترفتها منذ ألفي سنة، وتستمر متمسكا بتفاهاتك: “العرق، “الطبقة”، “الأمة”، القهر الديني وحظر الحب، مثلما تتمسك قملة بفرو، كما أنك لا تملك شجاعة ملاحظة كيف أنت غارق إلى الأعماق في مستنقع البؤس، أحيانا ترفع رأسك إلى خارج المستنقع لكي تصرخ بحياة الزعيم، نقيق الضفادع في الوحل أقرب منك إلى الحياة… إنني لا أستطيع تحريرك من وسخك، أنت وحدك من يستطيع ذلك.. إدمانك على التصفيق، تحررك من المسئولية، باختصار مرضك كله الذي ينتن هذا العالم الجميل، أعرف بأنك لا تحب سماع هذا وتفضل الصراخ بحياة الزعيم… ما تسميه رأيا عاما أيها الرجل الصغير، هو حاصل آراء صغار الرجال والنساء، كل رجل صغير له في داخله رأي صحيح وآخر خاطئ وكل امرأة صغيرة، والآراء الخاطئة ناتجة عن الخوف من الآراء الخاطئة الأخرى للرجال والنساء الصغار الآخرين، لهذا لا تظهر الآراء الصحيحة“.

يتخيل فيلهلم رايش أنه وجد بين الرجال الصغار من يتأثر بتحذيراته، وأن ذلك المواطن سأله عما يمكن عليه أن يفعله لكي لا يظل سائرا في قطيع الرجال الصغار الذين يتم استغلالهم لضمان مصالح “الرجال الصغار ـ الكبار”، فيطمئن رايش هذا الرجل الصغير بأنه لا يطلب منه القيام بشيء خارق للعادة، لا يريده رجلا كبيرا، لا يريده خارقا ولا بطلا ولا شهيدا ولا معارضا مضحيا بحياته، وكل ما يطلبه منه ألا يسارع لتنفيذ ما يقوله له الماريشال فلان أو الأمير فلان، بل أن يواصل عمله الذي يقوم به، أن يزرع حقله، يلوح بمطرقته، يعالج مرضاه، يأخذ أطفاله إلى اللعب والمدرسة، ليس عليه أكثر من أن يستمر بعمله الذي يقوم به، ويحافظ على نمو أطفاله في سعادة ويحب زوجته في الليل، مؤكدا له أنه لو قام بذلك بوعي ورباطة جأش لما تدهورت أحواله، وأنه لو عرف نفسه جيدا وكون رأيا خاصا به، وعرف أنه يجب أن يخدم الحياة لا الموت، لكانت حياته أفضل، يريده فقط أن يدرك أنه لا يحتاج إلى أن يصرخ دائما “نعم نعم نعم” لكل جنرال أو ماريشال أو أمير، وألا يترك هؤلاء يدوسون وعيه ويمنعونه من أن يكون هو سيد نفسه والمتحكم في مصيره، لكي لا يكون نهبا لاستغلالهم له.

في ختام خطابه الطويل المرير الملهم، لا يصرخ فيلهلم رايش في وجه الرجل الصغير، بقدر ما يخاطبه بحب وإشفاق ورجاء، ليثير شجنك وأساك أن تتذكر أن ما كان يرجوه من مواطنه، هو بالضبط ما ترجوه من مواطن مجتمعك لا أكثر ولا أقل:

“أيها الرجل الصغير.. إن الأمر مرتبط بك من البداية وحتى النهاية، هل يتوجب عليك أن تزحف مع الزاحفين إلى الحرب، هل تعرف أنك تعمل من أجل الحياة وليس من أجل الموت، هل تعرف أن كل الرجال الصغار على هذه الأرض يشبهونك أيضا في السراء والضراء؟ كل شيء مرتبط بك، سوف تتوقف يوما في المستقبل القريب أو البعيد عن الصراخ بنعم نعم نعم، لن تترك حقلك ومصنعك هدفا للمدافع، سوف تتوقف عن العمل من أجل الموت وسوف لن تعمل إلا من أجل الحياة. إن حياتك ستصبح جيدة وآمنة إذا كان ما هو حي بداخلك أهم بالنسبة لك من الأمن، وإذا كان الحب أهم بالنسبة لك من المال وحريتك أكثر من مجرد رأي حزبي أو عام، وإذا ما أصبح فكرك في انسجام مع أحاسيسك وليس في تناقض، وإذا ما أدركت مواهبك في الوقت المناسب وشيخوختك أيضا في الوقت المناسب وإذا ما بدأت تعيش أفكار الحكماء الكبار وليس جرائم المحاربين الكبار، وإذا ما جازيت أساتذة أطفالك أكثر من سياسييك، وإذا ما أدركت خطأ أفكارك في الوقت المناسب وليس متأخرا، وإذا ما أحسست بالسمو عند سماع الحقائق والفزع عند سماع الترهات وإذا ما جعلك الحب الذي تحس به ابنتك تهتز طربا وليس غضبا، وإذا ما اشتعلت وجوه الناس في الشوارع بالحرية والحركة والصفاء وليس بالحزن والبؤس كما هو الحال في أيامنا هذه”.

يا ليت قومي يعلمون.
 

تعليقات القراء