بلال فضل يكتب: إنهم يذكرون (سيسيهكم) بسوء!

نقلاً عن موقع التفرير
 
إذن، فالخطة التي تتبعها دولة السيسي من أجل ألا نصير مثل سوريا والعراق، هو أن نسير بالضبط على درب سوريا والعراق، ليصبح مجرد ذكر القائد الملهم الضرورة بسوء طريقًا نحو خراب البيوت المستعجل، مع أن ذلك كان واحدًا من معالم طريق خراب الأوطان المستعجل.
 
لا أنسى أبدًا واقعة حكاها لي أستاذ جامعي عراقي هاجر إلى البرازيل وأصبح يحمل جنسيتها الآن، كان شاهدًا عليها خلال فترة تجنيده الإجباري في العراق، حيث عمل وقتها مسؤولًا عن أرشيف معسكر التجنيد، وفوجئ ذات يوم برجل يقارب الخمسين من العمر، يدخل عليه طالبًا منه ملف خدمته لأنه أخيرًا أكمل فترة عقوبته، ليكتشف صديقنا أنه ليس مجندًا عاديًا، بل كان مسجونًا بقرار من محكمة ثورية حكمت عليه بالسجن تسع سنين قضى أغلبها في العمل كمرمطون في ذلك المعسكر، وعندما سأله صديقنا عن التهمة التي أفضت به إلى هذا المصير المؤسف، تلفّت حوله ليتأكد من خلو المكان، ثم أجابه بأنه عوقب لأنه روى لأحد جيرانه نكتة عن الأخ الرئيس القائد المهيب الركن صدام حسين، قائلًا بحماس تعمد أن يصحبه ارتفاع في صوته أنه أدرك خطأه وتعلم منه، وأنه يحمد الله على أن النكتة التي رواها لم تكن خارجة أو جارحة وإلا لدفع ثمنًا أفدح وافظع، كالذي دفعه من قضوا أوقاتًا أطول في أقبية تحت الأرض لا تصل إليها الشمس.
 
بالطبع، لا زال أمامنا الكثير حتى نصل إلى مستوى سوريا والعراق، لكن لدينا من يحاول بهمة ونشاط، فها نحن نقرأ عيانًا بيانًا عن عقوبة الفصل النهائي من الجامعات لكل من يرتكب “الإساءة إلى السيسي” التي صارت فجأة جريمة لن يغلب “ترزية القوانين الأزليون” في تقييف القانون اللازم لها، وها هو محامٍ كبير يقوم بالإبلاغ العلني عن الساخر باسم يوسف بتهمة أنه رآه يذكر السيسي بسوء في جلسة خاصة، وبدلًا من أن يتم التعامل مع الموضوع بوصفه نكتة بايخة، ليجد هذا المحامي من يذكره بمبادئ القانون التي داس عليها بفعلته، تطور الأمر إلى قيام النائب العام بفتح التحقيق في بلاغات مقدمة إلى مكتبه تطالب بمنع باسم من السفر وبسحب الجنسية عنه وبأشد أقصى العقوبة عليه لأنه ذكر (سيسيهم) بسوء، ليفتح ما جرى الباب على مصراعيه لهوجة بلاغات يمكن أن يقدمها كل وطني شريف ضد جاره أو زميله أو قريبه إذا ردد نكتة تسخر من السيسي أو وصفه بأوصاف من تلك التي تعود المصريون أن يصفوا بها رؤساءهم فشًّا للغل واستعانة على وعثاء العيشة، ولن يشعر عندها بالحرج من فعلة كهذه، لأنه ليس أقل وطنية ولا أكثر تحضرًا من الضليعين بالقانون الخبيرين بدهاليزه، وفي ذلك فليتنافس المهووسون.
 
ومع أن أحدا من الإعلاميين الذين هيجوا الدنيا ضد باسم يوسف لم يسمع شتيمة السيسي بنفسه، إلا أنهم جميعًا اعتبروا أن هجوم باسم عليهم في حديثه يعتبر في حد ذاته ذكرًا لـ(سيسيهم) بسوء، فإهانة أذرع الزعيم تعد إهانة للزعيم نفسه، وهو نفس المنطق الذي اتبعه من سمعوا حاجًّا مصريصا يدعو خلال شعائر الحج على السيسي فاعتبروا أنه يستحق القبض عليه وإحالته إلى المصحة العقلية، ليس لأنه لو كان عاقلًا لدعا على السيسي في سره، بل لأن الدعاء على السيسي يمكن أن يدخل في بند الاستقواء بالخارج وهو أمر يمكن لأي من دلالديل السلطة أن يجد له تخريجة فقهية تمنعه في المستقبل.
 
ولم ينس قضاؤنا الشامخ أن يضيف بصمته الخاصة في هذا المجال المستحدث، لنرى قاضيًا يصدر حكمًا بالحبس شهرًا مع الشغل على علاء عبد الفتاح دون أن يأخذ فرصة للدفاع عن نفسه أمام المحكمة، لأنه ارتكب جريمة خطيرة هي الدعاء في لحظة قهر على الظالمين من رجال الشرطة متمنيا أن يتيتم أولادهم ليذوقوا مرارة الظلم الذي يسوقونه للناس، دون أن يترك قاضي الأرض الفرصة لقاضي السماء -جلّ وعلا- لكي يحدد ما إذا كان علاء متجنيًا أو محقًا. فمن هنا ورايح لا ينبغي أن تهمل دولتنا الشامخة أي منفذ يمكن أن يتسرب منه التعبير عن القهر، وعلى من يشعر بالقهر ويرغب في فش غله بالتنكيت والدعاء على الظلمة أن يلجأ إلى الاحتياطات التي كان يلجأ إليها إخوانه في سوريا والعراق وليبيا، أما من لا يزال مصممًا على “أوبشن” الدعاء العلني فعليه أن يلجأ إلى الأدعية المبهمة القابلة للتفسيرات المتعددة على طريقة شيخ فيلم الإرهاب والكباب حين دعا: “اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا”، أو أن يتبع نصيحة القائد الملهم بضرورة الارتقاء عن الصغائر فيقرر أن يكون متسامحًا ويدعو لكل من ظلمه بالصحة والستر والسعادة وراحة البال ودوام الحكم. لكن ذلك يمكن أن يكون مخاطرة غير محسوبة؛ لأن مجرد الجهر بذلك الدعاء يحمل إقرارًا منه بأن هناك ظلمًا من أصله، لذلك سيكون عليه أن يأخذ بالأسلم ويقتدي بعادل إمام في دعائه الشهير: “اللهم خدنا احنا يا شيخ”.
 
قطعًا أنت تعلم أن هناك أغلبية كاسحة من المواطنين لا تتعامل مع كل ما يحدث بوصفه مهزلة مبكية، بل تراه مواصلة لاستعادة هيبة الدولة وردًّا لجميل الرجل الذي أنقذ مصر من الضياع وحفظها من الضباع وقاتل من أجلها الفرنجة في كل الأصقاع، مع مراعاة أن هناك أقلية من مؤيدي السيسي تواصل إقناع نفسها بأسطورة البطل المخلص الذي يقتل ويقمع من أجل أن تحيا مصر، ويعسكر الدولة حتى تكبر وتصبح مدنية وشاطرة وتعتمد على نفسها، وهؤلاء يلجأون للتعليق على مهازل كهذه بادعاء أن هذه الممارسات لا يقف وراءها السيسي نفسه، بل تتم من قبل أشخاص محبين له، ليس مسؤولًا عنهم ولا يملك لمحبتهم هذه دفعًا ولا صرفًا، وإذا افترضت في بعض هؤلاء بقية من ضمير وذمة وقمت بالرد عليهم مذكرًا بالتوجيهات الصادرة من رأس السلطة في كل شيء في مصر بدءًا من برامج التلفزيون التي تعمل حسب الطلب ووصولًا إلى قرارات المنع من السفر والتحفظ على الأموال، ستجدهم يردون عليك بهستيريا مرددين كلامًا مكررًا عن غياب البديل وضرورة عبور المرحلة والخسائر اللازمة لبقاء الدولة، وهو كلام كما تعلم لا بدّ من أن يختم بعبارة “مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق”.
 
إذا كنت تؤيد السيسي، لكنك لا تحب خداع نفسك، ولا ترغب في تأييد قرارات يمكن أن تورط مصر في طريق يقود إلى مصير سوريا والعراق، فأنت تعلم أننا لسنا محتاجين إلى إنكار مسؤولية السيسي عن كل ما حدث في مصر منذ لحظة خطاب التفويض الذي نصب فيه نفسه قائدًا فعليًا للبلاد وحتى الآن، بالطبع يمكن أن يكون لك رأيك في مبررات هذه الجرائم، في جدواها في استعادة الأمن والاستقرار، في أن تجنبها كان مستحيلًا، سأرفض رأيك لكني سأشعر حينها أنك على الأقل تحترم عقلك ولا تغالطه، وعندها يمكن أن يكون بيننا مساحة للحوار أعبر لك فيها عن اعتقادي أن الطريق الذي سلكه السيسي نحو استعادة هيبة الدولة يحقق بالفعل نتائج ظاهرية سريعة، لكن مشكلتها ليست فقط أنها قصيرة الأجل، فهي أحيانًا تدوم ثلاثين عامًا وأكثر، كما حدث في ظل حكم صدام حسين ومعمر القذافي وعائلة الأسد وعلي عبد الله صالح وغيرهم من طواغيت العرب الذين ظلوا على مدى عقود يباهون بقدرتهم على الحفاظ على مقاليد الحكم وشكم البلاد والعباد، دون أن ينتبهوا إلى أن هذه السيطرة الظاهرية تمنع المجتمع من حل مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتخلق مواطنًا خانعًا في الظاهر ساخطًا في الباطن، يردد الشعارات الوطنية بصوت عالٍ بينما تمتلئ جوانحه برغبات الانتقام والتدمير.
 
 لذلك عندما تأتي اللحظة التي يعجز الحاكم الفرد فيها عن حل مشاكل المجتمع المعقدة، لأنه لم يلجأ إلى آليات تداول السلطة وتعزيز الحياة السياسية ودعم المجتمع المدني وضمان حرية التعبير والسعي لإدماج الأقليات في المجتمع ونشر الوعي السياسي والحقوقي بين المواطنين، تحل حينها لحظة الانفجار سواء كان ذلك بسبب ثورة شعبية أو بعد كارثة طبيعية مفزعة أو بسبب حماقة سياسية تجلب عدوانًا خارجيًّا كاسحًا، وعندها يظهر على السطح كل ما كان كامنًا تحته من بلاوي، يندهش الناس مما يرونه سائلين أنفسهم من أين جاء، متناسين أنه لم يهبط عليهم من السماء، بل كان نتيجة ما جنوه على أنفسهم من طرمخة على الظلم الذي يظنون أن عاقبته لن تصيبهم أبدًا، وموافقتهم على أن يحظى الحاكم بسلطات شبه إلهية تمنعه من النقد وتحصنه ليس من السخرية بل ومن الدعاء أيضًا، وانزعاجهم من كل ما يصيب الحاكم من سخرية أو تطاول، في حين يتسامحون مع كل ما يقوم به أنصار الحاكم من خوض في الأعراض وطعن في الذمم وتخوين وتكفير ولا يجدون مشكلة في كل ما يقوم به هو من سوء، بل تنحصر مشكلتهم في أن يذكره أحد بسوء.
 
ولكي أكون صادقًا مع نفسي، دعني أؤكد إدراكي أن مشكلة أمثالي من الذين يؤمنون بخطورة ما يحدث في مصر الآن، أننا نحاول التعبير عن مخاوفنا في وسط لحظة غرامية ملتهبة بين القائد وجموعه الحاشدة، هم يستعدون لسحق من يدوس له على طرف، وهو لا يبخل عليهم بمعسول الكلام والتحية العسكرية، وليس عليك في ظروف عاطفية كهذه إلا أن تحاول تذكير من استطعت بأن علاقة الحاكم بالشعب إذا تحولت إلى علاقة غرامية لا حساب فيها ولا رقابة، فإنها تنتهي دائمًا بنهايات تهون إلى جوارها نهايات الفواجع الغرامية. ومن السهل طبعًا أن يلجأ الإنسان في ظروف كهذه إلى الاكتفاء بترديد ما يقوله المتفرجون على قصص الغرام الملتهبة: “بكره نقعد عالحيطة ونسمع الزيطة”، لكن هذا النوع من الزيطة يدفع الجميع ثمنه، ولذلك يحاول “الشخص” منا أن يقول ما عنده، ثم يسأل الله السلامة داعيًا بدعاء السابقين: “يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف”، قبل أن يمنعوه هو “راخر” باعتباره ترويجًا للخوف واستعانة بقوى خفية.
تعليقات القراء