عمرو شوقي يكتب: مش الراجل اللي هناك ده شبه عبدالناصر؟!

(1)

نحن الآن في أوائل فبراير 1955، بضعة أيام تفصلنا عن ليلة العرض الأول لفيلم «عهد الهوى» بطولة فريد الأطرش ومريم فخر الدين، المقرر لها يوم السابع من فبراير.
 
«روح هات لي ورقة وقلم».. تعجب فؤاد الأطرش من طلب أخيه "فريد" الذي كان طريح الفراش بعد مرض شديد مفاجيء ألم به..
 
وضع فؤاد حبة دواء تحت لسان فريد لتوسيع الشرايين، وسند ظهره بحيث يكون في وضع الجلوس، وأعطاه الورقة والقلم.. أمسك فريد بالقلم، وبدون تفكير كتب على الورقة:
 
«سيدي الرئيس.. من عادتي أن أحضر ليلة العرض الأول لأفلامي، لكني في هذه المرة مريض.. لذا أرجو أن تحضر افتتاح «عهد الهوي» بدلا مني، وأن تحيي الجماهير نيابة عني.. فريد الأطرش».
 
أصاب الوجل كل من حول فريد.. فكيف سيكون رد فعل قائد الثورة؟!.. ومرت الأيام..
 
جاءت ليلة العرض.. وحضر جميع نجوم الفيلم، فها هو يوسف وهبي، وها هي مريم فخرالدين، وها هو الكوميديان الصاعد بقوة الصاروخ عبدالسلام النابلسي، بالإضافة للجميلة «إيمان»..
 
دقائق قليلة وحدثت حركة غير عادية في شارعي عماد الدين والألفي، حيث سينما ديانا التي لم يكن فريد يرضى عنها بديلا لعرض أفلامه، وارتفع صوت السارينات، وكثر عدد الدراجات البخارية، ثم توقفت سيارة، هبط منها الرئيس جمال عبد الناصر وبصحبته عبد الحكيم عامر بزيهما المدني، ولبى الزعيم طلب الفنان المريض، وحيا الجمهور بدلا منه، وهو ما كان له عميق الأثر في نفس.. فريد الأطرش.

..

(2)

في أوائل الستينات زار عبد الناصر مدرسة النقطة الرابعة للمكفوفين بمركز سمالوط بمحافظة المنيا، حيث كان الزعيم –لأنه زعيم- يزور لا مدن الصعيد فقط، ولا مراكز مدن الصعيد فقط، ولا مدارس مراكز مدن الصعيد فقط، بل مدارس المكفوفين أيضاً..
 
كان أغلب سكان الصعيد يعرفون عبد الناصر صوتاً –من الراديو- أكثر مما يعرفونه شكلاً.. وحدهم -الطلاب المكفوفون- لم تكن تفرق معهم زيارة عبد الناصر، فالعين التي تشتاق للرؤية معطلة عن العمل، سيسمعونه أيضاً! حتى وهو على بعد أمتار قليلة منهم..
 
بعد جولة في بعض الفصول، قرر الزعيم الإنسان طبع كتابه "فلسفة الثورة" بطريقة «برايل»، مضيفاً مقدمة من جملة واحدة: «كُلّ مُيسر لما خُلق له .. الثورة لا تعرف العجز».
 
طالب واحد من وسط الطلاب المكفوفين نفذت تلك الجملة المشحونة بالقوة والإصرار والإيمان إلى أعماق أعماق بصيرته.. اسمه عمار علي محمد إبراهيم علي الشريعي .

..

(3)

كانت تلك أول مرة تظهر فيها «الملاية اللف» بمهرجان «كان» السينمائي الدولي.. والفضل يرجع لـ تحية كاريوكا..
 
ففى عام 1956 اشتركت مصر فى مهرجان كان بفيلم «شباب إمرأة»، وعندما لاحظت أسرة الفيلم الاهتمام المبالغ فيه بالوفد الإسرائيلي، ردت «كاريوكا» على ذلك بطريقتها الخاصة.. حيث بدلت ملابسها «المودرن» لترتدي «الملاية اللف»، التى ترمز لبنت البلد المصرية الجدعة، فلفتت أنظار الجميع، وأصبحت حديث جميع الوفود المشاركة.
 
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تصدت «كاريوكا» أثناء الغداء الذى تقيمه إدارة المهرجان تحية للوفود المشاركة، للفنانة الإسرائيلية ريتا هيوارث، عندما أخذت تمدح الوفد الإسرائيلي، كما بصقت في وجه فنان أجنبي وصف العرب بـ«الهمج»، وطلبت من رئيس الوفد المصري، الأديب يحيى حقي، الانسحاب من المهرجان، لكنه فضل التريث ورفض طلبها..
 
بالطبع لم تحصل «تحية» على جائزة تستحقها نتيجة لكل ذلك، لكن ما إن كتبت الصحف عما حدث، حتى قرر الرئيس جمال عبدالناصر تعويضها، فأوصى بمنحها جائزة الدولة عن دورها فى فيلم «شباب إمرأة»، وقال لها ذات يوم «إنتِ بميت راجل يا تحية».

..

(4)

جاء موسم الفيضان، واقتحمت السيول الجارفة مدينة قنا فدمرتها تدميراً، واختفت الشوارع تحت المياه، لدرجة أن الناس بدأوا يستخدمون جذوع النخل الكبيرة كقوارب صغيرة لقضاء حاجاتهم..
 
كان ذلك عام 1954، ما كان من مجلس قيادة الثورة -التي مر عامان على قيامها- إلا أن زاروا "قنا" لمتابعة الكارثة التي لحقت بالمكان وناسه..
 
يقول عبدالرحمن أنه كان يسير بالصدفة مع زميله في المدرسة الثانوية «جمال نصار» عندما، فاجأه جمال، قائلاً: «مش الراجل اللي هناك ده شبه عبدالناصر؟!».. ليرد: «باينه هو!»
 
يتذكر عبدالرحمن المشهد بحذافيره، قائلاً: «كانت عربية جيب صغيرة تقف وقد غرقت حتى فوانيسها في الماء، بينما رجل طويل مثل نخلة يقف فوقها ولا أحد حوله، فـ «خضت» له في الماء حتى وصلت إليه وسألته: ـ انت جمال عبدالناصر! كان هو يقف شامخًا مثل نخلة من الصعيد، وكنت أنا «عيل»، فقلت له: ممكن أسلم عليك؟ فابتسم الرجل، وفوجئت بالنخلة دي كلها تميل على ويمد لي يده، ليسلم على بحرارة وخُلق، لأنصرف بعدها وأتركه في السيارة الجيب، فقد بدا لي ساعتها وكأنه كان ينتظرني، لتظل نظرة عينيه تطاردني مثلي مثل كل الذين رأوه عن قرب».
 
يقول الخال عبدالرحمن الأبنودي أن تلك «النظرة» هي التي ألهمته لكتابة قصيدته الرائعة «جمال عبدالناصر».. التي خطها بعد 55 عاماً من ذلك المشهد..
 
ومما يقول فيها:
أنا أذكُرك من غير ذكرى
والناس بتفتكرك بخشوع
الأمس واليوم ده وبكره
يبكوك بعظمة مش بدموع 
يكفَى نقول: «عبدالناصر»
 

..

 
إهداء إلى يوم 28 سبتمبر «الحزين».. الذي علمنا أن الأمانة أثقل من أن يحملها ويحتملها فرد واحد، وأنه على كل فرد أن يتحمل نصيبه من هموم وطنه.
 
تعليقات القراء