هالة منير بدير تكتب: عن فن استحضار الأرواح

عن الفترة التي سيبدأ فيها الجميع بتوزيع الميراث .. لا أتحدث هنا عن العقارات وحسابات البنوك وشكمجية المجوهرات، أو حتى النقود المخبأة تحت البلاط، أتحدث عن نظارة القراءة وساعة اليد وبالطو شتوي قديم، عن قلادة وقرط من الفضة وعن خاتم الزواج ..
سأقفز سريعاً فوق لحظات استقبال نبأ الموت الذي ينزل كالصاعقة على ذوي الميت، فأنت الآن صلب تحضر مراسم العزاء، أو قد تسقط أرضاً من صدمتك حين رأيت اسم الوالد محفوراً على شاهد القبر، ولكنك في كل الأحوال أفضل حالاً ممن يتلقَّى الخبر وهو على بُعد آلاف الكيلومترات، فيصل لتوديع الفقيد بعد أن لقَّنه آخرون الشهادة وأغمضوا عينيه ..أنت الآن على بعد أشهرٍ من الفقد .. أو ربما على مسافة سنواتٍ من الفراق .. عشت الفترة الماضية كلها تتلقى المواساة بداية من تلقي العزاء في الأيام الأولى، وحتى تعداد مآثر المرحوم أو المرحومة كلما حانت مناسبة في جلسة عائلية، أو بينك وبين نفسك حين يمر طيفه ببالك ..
تتذكر الأعزاء الذين فارقوا الدنيا بين حينٍ وآخر، تتذكرهم في المرة الواحدة مدة لا تطول عن مقدار الدقائق التي تستغرقها في قراءة سورة يس أمام قبر واحدٍ منهم، تلك الدقائق التي تستعين فيها بالقرآن لتنزل عليك السكينة، ولكن آلام الفراق تأبى أن تتركك تنعم بذلك الثبات، تغتال مشاعرك تلك الأيام الأخيرة الذي صارع والدك فيها المرض، ينهال عليك حنان وعطف مفقود مع جديك الفقيدين، يقتنصك مشهد والدتك أو زوجتك وهي تودعك أثناء سفرك عندما لم يتنامى إلى ذهنك حينها أنها هي التي تودعك قبل مماتها ..
 
أحتاج إلى هذا الحزن .. بل أبحث عن أي شيء يجدده أو يأسرني إلى كل التفاصيل القديمة لتجعل من هذا الماضي حاضراً مجسماً، أغنية لأم كلثوم كان الوالد يعشقها فأنتحب على فراقه مع كل كلمة .. لقب قلدَّني أياه جدي فأحمله وأردده بكل فخر.. تَعَمُّد تناول وجبة معينة كانت جدتي تعِدَّها لي فأستحضر بها روحي مع مذاق ورائحة ذلك الطعام .. نعم أنبش كل الذكريات لعلي أغوص في هذا الشجن أو إلى الغرق فيه أحياناً .. أذوب في صورة وهم يحملونني بين أذرعهم، أتحسس قصاصة ورق تحفظ خط أيديهم، أقدس مقتنياتهم بنفس طريقة ترتيبهم إياها، أتندم على نصيحة منهم لم أكترث لها، ثم أبادلهم صلة رحمهم ، وود أصحابهم، وزيارة قبورهم ولو مرة كل عام ..
حتى اكتشفت طريقة لجرعة مُركزةٍ من استحضار أرواح من فقدناهم، والتي لا أنصح بها ذوي القلوب الضعيفة، ليس استحضاراً بالمعنى المفهوم لجلسات تحضير الأرواح وتسخير الجان وتنويم الوسيط مغناطيسياً، وإنما بشيء أسهل وأكثر أمناً، أن تستمع لتسجيلات صوتية بالطريقة التقليدية !! نعم .. شريط الكاسيت .. له سحر خاص ربما يكون عندي أجدى من أن أشاهدهم صوت وصورة على شريط فيديو، ربما لأن التركيز من خلال الاستماع للصوت يجعلك تستجمع كل حواسك في حاسةٍ واحدة، لا توجد صورة متحركة في فيديو فتسرح عينيك في ملامحهم التي بدأت بالشحوب في مخيلتك، نعم صوتهم فقط .. النبرة ودرجة علو الصوت .. دفئه وقت النصيحة .. وحرارته للتعبير عن الشوق .. وتوسله عند التوصية بالاهتمام بالنفس، تجلس وكأن على رأسك الطير، تنظر إلى شيء غير موجود في الفراغ، تستلهم أحلى الأيام ، وتطرد من ذاكرتك سيئها، تستحضر روحهم بحق، تستشعر وكأنهم عادوا من جديد ، دون جان أو وسيط منوَّم كما في أفلام السينما، هم الآن بجوارك، ربما سيجذبك أحدهم إلى حضنه الآن، ربما ستجد نفسك بعد قليل وبالكاد قد لامست قدماك الأرض إذا ما سمعت صوتك وأنت صغير بجانب أصواتهم في التسجيل، تتمنى أن تُسخط طفلاً من جديد، فتجري وراءك أمك بطعامٍ لم تحبه، ويمنع عنك أبوك المصروف ..
كلنا بالفعل يمارس اجترار الأحزان، استرجاع لحظات مُرَّة من الماضي .. لا أدري إذا ما كانت هذه حالة صحية ووضع سوي أو بشائر مرض نفسي ؟! تردَّدَ مؤخراً الحديث عن حالة تُدعى " نوستالجيا " انحصر المشتركون فيها باستعادة أحلى ذكريات الطفولة بما اقترن فيها من لهو ولعب وأغاني ومسلسلات ومواقف ونوادر وغيره، ولكني لا أعلم إذا ما كان تذكر لحظات موت الأعزاء والحنين في كل وقت لأصواتهم والافتقار لأحضانهم والرتب بكفوفهم على أكتافنا يندرج تحت مسمى ال"نوستالجيا" ؟! ..
 
أحياناً نحتاج إلى أن نستدعي أرواح من فقدناهم، بأرواحنا وفي عقولنا، ربما هرباً من حاضرٍ نحياه، أو من تَمَنٍّ زائفٍ لوجودهم معنى في حياة صعبة حتى نهاية أعمارنا، أو سأمنا من مسئولياتٍ تقلَدناها في ظروفٍ غير مواتية ، ولكن المؤكد هو تخيلنا حين فقدناهم أننا سنحزن عليهم طول العمر وطيلة الوقت، ولكن ذلك التخيل انتهي بالنسيان، وتسخير الله كل ما حولنا ليدفعنا للتناسي، سنأكل ونشرب بعدما حدثتنا أنفسنا أن كيف العيش بدونهم، وسننفجر ضحكاً بعدما قررنا التوشح بالسواد طالمنا حيينا من بعدهم، وسرعان ما سنجد أنفسنا وسط حفلات أعياد الميلاد والزواج نتمايل ونرقص فرحاً .. تلك هي الحياة .. حاضر يحيا فيه ماضٍ لم ولن يمت أبداً ..
 

 

تعليقات القراء