بلال فضل يكتب: الموهوبون في الأرض| فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح

منشور في موقع: كسرة

كان رحمه الله جامحا، ولا أظن أنني لو أردت أن أختار صفة وحيدة تلخص سعيد صالح رحمه الله، سأجد أفضل ولا أدق من وصفه بالجموح بكل ما للجموح من دلالات إيجابية وسلبية معا.
يقولون أن الفرس جموح عندما يندفع ويستعصي على راكبه، ويقولون أن السفينة جمحت عندما لا يتمكن ربانها من ضبطها، ويصفون العاطفة بأنها جامحة عندما ينقاد صاحبها وراءها ويفقد سيطرته عليها، ويقولون جمح خياله أي ذهب به بعيدا، وجمح به مراده فلم ينله، وأقول أن سعيد صالح كان جامحا لأنه كان مجسدا لكل هذه المعاني على اختلافها، فقد كان صاحب موهبة مندفعة تستعصي على أي ضبط أو توجيه، أو ربما لم يتمكن هو من ضبطها أو لم يرغب في ذلك، ولذلك فقد ذهبت به بعيدا عما كان يتمنى هو والذين راهنوا على موهبته التي بزغت في منتصف الستينات من القرن الماضي.

“لا مش هينفع دي تتكتب”، عبارة أقولها لنفسي عندما أفكر كثيرا في كتابة ما أعرفه من حكايات كثيرة عن سعيد صالح ليس لأن بها أسرارا شخصية تسيئ إليه، فالعجيب أنه كان نفسه الذي حكاها لي عندما كنت أعمل على مشروع باب اسمه (أيام الصعلكة) اقترح فكرته الأستاذ ابراهيم عيسى عام 1998 لينشر في مشروع صحيفة (ألف ليلة) التي لم تصدر بعد أن تعرضت للمصادرة كشأن كثير من الصحف التي كانت ترتبط بابراهيم عيسى في مرحلته المتمردة المشاغبة التي صنعت نجوميته وجلبت محبة الكثيرين له، وبرغم أنني سجلت خلال إعدادي لمادة ذلك الباب الكثير من الوقائع التي حكاها لي كبار نجوم مصر، إلا أنني أصبحت أشعر الآن أن نشر هذه الحكايات سيكون صعبا جدا، مع حالة المحافظة التي اجتاحت المجتمع في الفترة الأخيرة وضيقت الكثير من البراح ولا زالت تفعل كل يوم، ومع سيادة منطق (شاهد قبل الحذف) الذي يتصيد اللقطات والفقرات والسطور والجمل والعبارات ليصنع منها مادة تجذب المتصفحين النهمين لكل ما يصلح مادة للهري والنكت وتزجية أوقات الفراغ التي صارت أكثر من الهم على القلب خصوصا بعد أن صارت السياسة فعلا هادما للذات ومفرقا للجماعات.
كان لي الحظ أن أعرف سعيد صالح عن قرب لفترة من الوقت في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، صحيح أن علاقتي به لم تكن بنفس قوة وحميمية ودفء علاقتي بصلاح السعدني وعادل إمام، الذين كانا الضلعين الآخرين من مثلث صداقة مدهشة مركبة يمكن أن تنخدع أحيانا باعتقاد أنها ليست دافئة ولا حميمة، لكنها مع أول اختبار تتكشف لك عن محبة عميقة تجمع أطرافها دائما وأبدا، لكن معرفتي القصيرة به كانت كافية لفهم ما جرى لصاحب تلك الموهبة الفياضة المدهشة التي ضاعت أدراج الرياح، لسبب بسيط هو أنه تعامل معها في أغلب الأحيان باستخفاف، وظن أنها هبة أزلية لا تتطلب منه أن يشتغل عليها ويحارب من أجلها، متصورا أنها ستظل في خدمته إلى الأبد، بدلا من أن يكون هو دائما في خدمتها.

3
ربما كان هناك حكاية مفتاحية لفهم هذا المعنى، حكاها لي عادل إمام أولا واستوثقت منها من سعيد صالح بعد معرفتي به، وفوجئت أنه يحكيها لي بسعادة بالغة على عكس ما كنت أتصور، تقول الحكاية أن عادل إمام في مطلع التسعينات ومع أول ظهور للأطباق الفضائية كان يقلب في إحدى القنوات العربية الجديدة، ليجد عليها فيلما عجيب الشكل من بطولة سعيد صالح، لم يكن قد سمع عنه ولا عرف أن سعيد قام ببطولته أصلا، اتصل عادل بصديقه مستغربا وسأله ساخرا “إيه يا سعيد الفيلم الغريب اللي انت عامله ده”، ليفاجأ أن سعيد يرد عليه ضاحكا بتحدي “وهو انتو لسه شفتوا حاجة.. ده أنا هاهريكو أفلام الفترة الجاية.. هو اللي بتعملوه ده سينما أصلا”.

يحكي سعيد صالح الحكاية لي مضيفا إليها تفاصيل مثيرة للضحك والدهشة عن تجاربه في تمثيل سيل من الأفلام التي لعب بطولتها والتي حملت لقب “افلام المقاولات”، وكانت تشكل ظاهرة غريبة خلال فترة انحسار صناعة السينما في النصف الأول من التسعينات، لا أتحدث هنا عن الأفلام قليلة التكلفة التي كانت منتشرة طيلة فترة الثمانينات والتي كان سعيد صالح يلعب بطولتها أو يشترك في بطولتها إلى جوار كوميديانات آخرين مثل سمير غانم ويونس شلبي، والتي اشتهرت منها أفلام مثل (محطة الأنس ـ مخيمر دائما جاهز ـ حسن بيه الغلبان ـ مسعود سعيد ليه ـ القط أصله أسد ـ نأسف لهذا الخطأ) وغيرها، فقد عاش بعض هذه الأفلام حتى الآن، واختلفت في تقبل بعضها الآخر الأذواق، لكنها على الأقل كانت أفلاما تخضع لدورة حياة الفيلم الطبيعي الذي يصنعه سينمائيون محترفون لكي يشاهده الناس في دور العرض السينمائي فيحبوه أو يكرهوه أو يتجاوزوه، أما الأفلام التي أقصدها فهي لم تكن تصنع أصلا لكي تعرض في دور العرض، بل كانت تستهدف سوق الفيديو الذي كان قد بدأ انتشاره في دول الخليج التي لم يكن أغلبها قد عرف دور السينما، ولذلك كان يتم تصوير الفيلم في أسبوعين إذا كان فيلما كبيرا، فالأغلب الأعم كان يتم تصويره في أسبوع واحد طبقا لما يرويه سعيد نفسه الذي تعاون في هذه الأفلام مع مخرجين “كلشنكان” أو “ناس غلابة” على حد تعبير سعيد الذي لن تندهش عندما تعرف أنه لا يتذكر أسماء أغلب تلك الأفلام ولا قصصها ولا ظروف تصويرها، ويقول ساخرا أنك لو سألت مخرجيها أنفسهم عنها لما تذكروها، عندما سألته عن فيلم لعب بطولته مع الفنانة آثار الحكيم لم يتذكر شيئا عن الفيلم سوى مشادة حدثت بينه وبين آثار التي اعترضت على طريقته في الحديث خلال التصوير لأنه يتحدث بألفاظ نابية، وعلى عكس غيره من الفنانين الذين نرى لبعضهم تصريحات بعد تقدم العمر وهم يتحدثون عن ندمهم على أعمال فنية قاموا بها بحثا عن المال أو من أجل الإنتشار، راجع مثلا تصريحات كثيرة لملك السينما المتوج الفنان الكبير فريد شوقي الذي كان يبدي ندمه دائما على مرحلة ما قبل فيلم (الأسطى حسن) وعلى بعض أفلامه في نهاية الستينات، بعض هؤلاء الفنانين مثل سمير غانم يسخر بشدة من هذه الأفلام لكنه يتجنب ذكر أسماء محددة للأعمال التي يندم عليها لكي لا يغضب زملاءه الذين شاركوه في صنعها، لكن سعيد صالح على العكس تماما لا يبدو نادما على شيئ، بل هو للأمانة لا يبدو مكترثا من أصله بتصنيف هذه الأفلام وتوصيفها، بالنسبة له كان “شغل وخلاص وأدى المطلوب منه فيه لذلك ليس من الجدعنة أن يندم عليه أو يتحدث عنه بشكل سلبي.. كل الحكاية إني ما انبسطتش في السيما زي ما انبسطت في المسرح ويا سلام لو كان ينفع ما اشتغلش طول عمري غير مسرح بس”.
عندما التقيت بسعيد صالح لأول مرة، كان ذلك في منتصف عام 1997 مثلا، عقب خروجه من السجن بعد أن قضى فيه حوالي عام على ذمة قضية تعاطي مخدرات، وأذكر أنني عندما سألته عن صحة ما يقال أن القضية كانت استقصادا له من ضابط مكافحة مخدرات، رفض تأكيد ذلك صراحة، لكنه قال بعدها كلاما ساخطا من نوعية “زي ما يكون ما فيش في البلد حرامية ولا نصابين ولا تجار مخدرات ولا ناس بتنهب البلد.. ما عادش في غير سعيد صالح اللي البلد هيتعدل حالها لو اتحبس”، (فيما بعد حكى لي صديق من سكان السيدة زينب شهد من بلكونة بيته واقعة القبض على سعيد التي كانت في حوش كان يجلس فيه مع أصدقائه من داخل الوسط الفني وخارجه أن سعيد صالح كان يصرخ في وجه الضابط الذي قام بكلبشته “إنت ما تعرفش أنا مين أنا سعيد صالح بكالوريوس زراعة” وهي جملة عبثية لا يمكن أن تخرج إلا من دماغ مثل دماغ سعيد صالح التي لا يمكن توقعها أبدا.

انتظروا الجزء الثاني من المقال غدا الثلاثاء 16 سبتمبر.

تعليقات القراء