مروان يونس يكتب: في ماذا يفكر الجنرالات؟

تمر الأيام ثقيلة الآن على الشعب المصري، هذا الثقل ليس بسبب مشكلة اجتماعية أو انسانية كبرى، ولكن بسبب عدم وضوح وضبابية الرؤية لمستقبل مصر بعد الدستور الجديد..
 
فلا يجب أن نغفل أو نتغافل أن الدستور المصري الجديد قد لبى الكثير من متطلبات الحرية والتي طالبت بها ثورتين متعاقبتين وصارع من أجلها المجتمع حتى استطاع إسقاط نظامين لمبارك و للعياط، ولكن أيضا لا يجب أن نغفل أن هناك بعض علامات الاستفهام حول هذا الدستور..
 
لن أتطرق كثيرا خلال ما سيلي للمميزات والتي أراها في المجمل نظرة تقدمية للمستقبل في ملف الحريات والأهم بداية تحول مسار البوصلة المصرية من خدمة دولة عميقة وأجهزتها إلى اتجاه تبدية حقوق الرعاية والخدمات للمواطنين..
 
فكانت مواد التعليم والصحة والخدمات بشكل عام متميزة بشكل كبير بل حالمة تلقي ببعض المسئوليات على الدولة وتوجهها لتوفيرها، مما سيكون له عظيم الأثر على تغير التوجه السياسي لكثير من الوزارات الهامة مثل الصحة والتعليم، الأولى لتوفير تعليم حقيقي يشمل كل المواطنين والثانية لتوفير مظلة رعاية صحية للجميع..
 
ولكن ربما تأتي الضبابية من الجانب السياسي من الدستور، فيجب أن نعترف أولا أن لأي دستور قراءات متعددة ومنها القراءة السياسية، ولنأتى لنظام الحكم...
 
يجب أولا أن نعلم أن أي نظام سياسي ناجح لابد أن يكون مبني على توازن السلطات واستقلالها عن بعضهما البعض مما يضمن المحاسبة بينهم وعدم تضارب المصالح أو الانحياز اجتماعيا لمجموعة ما أو سياسيا لفريق ما، ولكن أحيانا يختلف هذا النموذج، وعادة يكون هذا الاختلاف في حالات خاصة أو للتحديد في النظام البرلماني والذي يكون فيه تركيز السلطة التنفيذية في رئيس للوزراء وووزرائه نتاج أغلبية حصل عليها حزب ما أو تكتل ما في البرلمان، وفي هذه الحالات لا يكون الرئيس ممثلا للسلطة التنفيذية بل رئيس الوزراء، وبهذا تختلط السلطات بين البرلمان ورئيس الوزراء وتشترك المصالح في معظم الأحيان...
 
لم يستطع التعايش سياسيا مع هذا الخلط إلا في حالتين، الأولى: الدول عريقة الديمقراطية والممارسة مثل المملكة المتحدة وشبيهاتها القلائل من الدول، ففي هذه الدول يعلم كل برلماني علم اليقين أن ربط المصالح وتداخلها له حدود فاصلة وهي المصلحة الوطنية العامة ومصلحة الشعب، ومن خلال الممارسة الطويلة والتاريخية يعلم عضو البرلمان هناك أيضا أن هذا الخلط وترابط المصالح يؤدي لإفساد الحكومة وإفساد الدولة والتي مراعاة مصلحتها هي لب الموضوع ومبغى أي نظام سياسي وسلطاته...
 
أما الحالة الثانية: فهي دول المحاصصة السياسية في السلطة، ونموذج دولة لبنان، فقد استخدم هذا النظام السياسي بغرض تقسيم السلطة ومحاصصتها بين الطوائف وبين الأعراق الاجتماعية، ويبدأ تقسيم السلطة من تشكيل الدوائر الانتخابية ومنها التحديد المسبق لنصيب كل فصيل بالبرلمان بغرض الحفاظ على التركيبة السياسية والاجتماعية للمتناحرين، فتأتي الانتخابات باهتة بلا طعم إلا في مناطق مشاركة النفوذ الاجتماعي بين الطوائف وهي القليلة والغير مؤثرة في صنع القرار بشكل كبير...
 
نهاية فالنظام البرلماني وتداخل السلطات لم ينجح إلا في الدول عريقة الديمقراطية أو دول المحاصصة السياسية والذي نشأ فيها لنزع فتيل العنف أو بغرض الوفاق الوطني بعد حرب أهلية، ولكن ماذا عن مصر؟
 
لنأتي للقراءة السياسية للدستور ومواده ولنخرج من عباءة الاعتراف بالدستور وربط ذلك بالاعتراف بالثورة، هذه المعادلة التي فرضت إعلاميا ودوليا على الشعب المصري وناخبيه...
 
فالدستور المصري شكليا نظاما مختلطا بين رئيس وبرلمان، ولكن مضمونا هو نظام برلماني ذو مسحة سياسية رئاسية، دستورا يكون البرلمان فيه ذو سلطات مترامية مكبلة لأداء السلطة التنفيذية ومتدخلا فيها بل موجها للقرار السياسي..
 
فنجد بالدستور برلمان مصر 2014 هو المسئول ضمنيا على تعيين رئيس الوزراء من خلال إمكانيته رفض رئيس الوزراء المعين من الرئيس فارضا توافقا وفارضا إرادته عليه من خلال جولة ثانية من التعيين تتم بواسطة البرلمان ومن خلال الأكثرية المؤثرة على صنع القرار فيه، وتباعا سيكون نفس التأثير نافذا في تعيين الوزراء والذي سيكون فرضا "ضمنيا" على الرئيس بواسطة المحاصصة الحزبية والسياسية داخله فارضين إرادة التكتلات داخله على السلطة التنفيذية، ملونين الوزارة بلون سياسي تماما يكون فيه أغلب الوزراء ذوي خلفية سياسية وحزبية بعيدا عن الكفاءات، وتقترب الوزارة في التشكيل من طريقة تقسيم الكعكة فقطعة السلطة لكل فصيل حسب قوته وتأثيره بالبرلمان...
 
وأخيرا وقبل أن ننتقل للمغارمة السياسية بدستور الثورة، أجد نفسي مسئولا عن مصارحتكم برأيي حول إمكانية ممارسة السلطة في الدستور، فلن يمكن لدستور بهذه الصلاحيات للبرلمان وتداخل في السلطات أن يكون سامحا بممارسة فعالة إلا في ظل ملائكة بالبرلمان والمؤسسة الرئاسية، كما لن تستطيع دولة مصر الثورة واقعيا أن تمارس السلطة بشكل موضوعي بل ستكون في أغلب الأحيان خارج المسائلة..
 
فلو فشلت الدولة لن يجد الشعب المصري من يسأله عن هذا الفشل، بين رئيس منزوع الفاعلية السياسية، برلمان يتحكم في إدارة الدولة من خلف الستار، وزراء خارج المسائلة تحميهم الأغلبية السياسية بالبرلمان وهي التي أتت بهم، برلمانيين حديثي العهد وسط انعدام توافق بالمجلس وريبة وتشكك للكل في الكل نتاج ثورتين متعاقبتين لتكون بذلك معادلة سحرية وخليطا مؤديا لفشل اقتصادي قادم ولو بعد حين...
 
أما بخصوص المغامرة السياسية للجنة الخمسين، فقد صدرت لجنة الخمسين خوفها من مجيء الصناديق برئيس ديكتاتور أو من تيار الإسلام السياسي، ومن ذلك اقتنعت وأقنعت المصريين "هيا لنكبل سلطات الرئيس" بل لنشاركه في السلطة منعا لفساده في يوم من الأيام حتى لا تنتج الصناديق مبارك جديد أو عياط جديد، ولكن غفلت الاحتمال الآخر، وهو ظهور أكثرية برلمانية أو كتلة شديدة التأثير من تيار ثلاثي الأبعاد بين أنا مش اخوان بس بحترمهم "أو قابض منهم" مضافا إليه أصدقاء الإرهاب بالأحزاب الجهادية ومعهم نواب الإخوان... فماذا ستكون النتيجة حين ذلك؟؟
 
النتيجة خسارة الكل في الكل، برلمانا ورئاسة ومعهم مكافئة للشعب المصري دولة فاشلة اقتصاديا وغارقة بالصراعات السياسية على السلطة...
 
حقيقة رغم أن المعادلة الاجتماعية للدستور في منتهى التقدمية والرقي، ولكن المعادلة السياسية للدستور في منتهي البؤس السياسي بل رهانا للجنة الخمسين على الكل في الكل تحت ادعاء أن البرلمان القادم هو أشرف ما سيأتي لمصر وهو المسئول عن تقسيم كعكة "مصر" حسب ما يشاء و ذلك على فرضية برلمان الفضيلة التي بدأت تتشابه مع فرضية البرلمان الإلهي للتيار الديني وهو برلمان 2013...
 
وأخيرا لنأتي للاعب الأهم في المعادلة وهو القوات المسلحة، فهي الأخرى تراهن بموافقتها وبمباركتها لمواد السلطة بهذا الدستور على نفس فرضية لجنة الخمسين، وهي ضرورة الصلاح الوطني والأخلاقي للبرلمان القادم معتقدين في خروجه المؤكد من نطاق العمل السياسي النفعي للعمل السياسي الوطني، بل أيضا على اعتقاد آخر أن هذه المواد ستستطيع السلطة ممارسة دورها من خلالها وسط جو من الوئام والمحبة والأخوة...
 
نهاية، لا أعرف ماذا يدور في ذهن الجنرالات وما هو مغزى هذا الصمت على الدستور ومواده، هل هو اتفاق ضمني، أم عدم رغبة في المشاركة الفاعلة في الدعوة له للتصويت بنعم ليكون صمت المضطر مقابل الضغط الخارجي لتمرير هذا الدستور، أم ربما ريبة وتوجس من نتائج إقراره متساوية الاحتمالات بين دولة جديدة حرة أو دولة تتقاسم فيها الفاشية الدينية السلطة والثالث دولة فاشلة اقتصاديا واجتماعيا من كثرة النزاعات السياسية...
 
حقيقة أتمنى التصويب بنعم، بل مضطر في جميع الأحوال للتصويت بنعم للربط الإعلامي بثورة 30 يونيو، ولكن أكثر ما أتمناه عودة مواد السلطة للمناقشة لتشمل بعض التغييرات الجوهرية لتجعل الدستور دستور مصر الموضوعي والمناسب وليس دستور المدينة الفاضلة والذي أراه صعب التحقيق.
تعليقات القراء