صباح مناسب للقتل.. «هذا رجل خلق ليكون شاعرًا»

محمود فطين*
 
"هذا رجل خلق ليكون شاعراً"، هذا ما يخطر في ذهنك عندما تقرأ مجموعة "صباح مناسب للقتل" للكاتب أسامة جاد، هو أربعيني العمر لكنه مجموعته فيها من الطفولة قدراً لا يستهان به، حيث تتضافر فيها دهشة اكتشاف حقائق الحياة مع الذكريات البعيدة للحظات تبدو عادية ولكن الكاتب ينجح فيها في الإمساك بتدفقات كل المشاعر الإنسانية ويظهرها للعيان، فيعيد للعادي –البشر العاديين واللحظات العادية- مجده بما يستحقه من إعادة الاكتشاف بعين الطفل تلك التي تكمن وراءها روح تعرف العالم وتحبه كما يتضح ذلك من الإهداء الذي صدر به الكتاب: إهداء إلى والدة الكاتب ووالده وجدته (وتقديم الأم على الأب له مغزى هنا أيضاً) وإلى الإبداع البشري في طيفه الواسع من أول ألف ليلة وليلة إلى المعاصرين (عبد الرحمن منيف والطيب صالح والطاهر وطار)، وقبلهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمد مستجاب ومحمد حافظ رجب وكتاب عالميين مثل مكسيم جوركي ويوكيو ميشيما واسماعيل كاداريه.
 
 
 
مما يستوقف النظر عن قراءة القصص في هذه المجموعة العناوين التي تتميز بالطول النسبي وباختصارها جزئياً لأحداث وملامح القصة وباحتواء أغلبها على أنواع من الخيالات أو الصور الفنية، وكل هذا يصرح بإخلاص بشعرية الكاتب ورهافة السرد وتمكنه منه.
 
 
 
 فمثلاً في قصة "دموع طارئة" نرى الحب حين يفيض فيشمل حتى الحيوان والطير فيصبح موت دجاجة مستحقاً للرثاء فتبكي مربية الدجاجة حداداً عليها "تبكي آخر ما يرطبها بالدنيا، وتأكل ببطء.. شديد".
 
 
 
في"ذراع خفية" تبدو قدرة الكاتب على القبض على لحظة من لحظات اختلاج الروح وافتقاد الزوجة العجوز لزوج غيبه الموت
 
 
 
"تحدث الغائبين وتقسم حبوب الضغط" يميط الكتاب فيها اللثام عن المعاني العميقة الكامنة وراء العادي والمألوف  في ساعات طويلة تنتظر فيها الأرملة مكالمة هاتفية من ابنها الغائب وساعات وقوفها في الطوابير لتدفع فاتورة الهاتف الذي لا تريد منه غير المكالمة الموعودة تلك ولتصرف معاش زوجها الراحل الذي لا زالت على حبها له  وهي "مسحت غباراً كاذباً عن صورة المرحوم، وأسندت ظهرها إلى الكرسي ونامت"، تطل من القصة كل مشاعر الحب الغامر وإنكار الذات الذي يدفع الأرملة لأن تقسم علاجها إلى نصفين حتى تستطيع أن تحتفظ بهاتفها كي تحدث الغائبين كما هو واضح في العنوان
 
 
 
"رأينا أرض ميلادنا"، فيها غرائبية جميلة تمزج فيها تلك الروح المرهفة الإنساني بالحيواني معاً وكأنها تريد معانقة العالم بكل مخلوقاته
 
 
 
"المرأة التي تكره الشرفات": يضعنا الكاتب أمام إمراة لم تفتح شرفة لمدة ثلاثين عاماً وتهرب من الضوء بكل السبل حتى واجهته لأول مرة "عندما تأخر ابناها، ونزل الجيش للمدينة وانقطعت شبكات الاتصال، شدت روحها بالكاد وهي تفتح باباً خشبياً، وتطل برأسها أولاً، بذراعيها وكتفيها، وتخطو إلى الشرفة حيث كورت نفسها على أرضيتها بانتظارهما. بالأمس حملت حفيدتها، هناك، تحت الشمس، وكانت الصغيرة تحمل في يدها علماً صغيراً، وتضحك". ويترك المجال للقارئ مفتوحاً ليتولى تأويل رموز القصة في سياق خاص أو عام، وإن كان الأقرب إلى الذهن أن ذعر المرأة من الإطلال من الشرفات ربما يشير إلى القمع الذي عانى منه المصريون طوال العقود الثلاثة الماضية وترك أثره على الكثيرين منهم –على الأخص ذوي الأعمار المتقدمة كما في القصة- في الخوف من كل شئ والمشي بجوار الحائط، حتى حانت لحظة الثورة ووجدوا صغارهم في الميادين تحت الشمس يحملون الأعلام ويضحكون، ولو كانت هذه القراءة مقبولة فهي تمثل إقراراً بأهمية ذلك النص وثرائه البالغ، حيث يعبر عن حدث طالما اعتدنا التعبير عنه بضجيج وهتاف؛ يعبر عنه بهمس رقيق ممتلئ  بالحكمة.
 
 
 
"تشبهين صباح": نص شفاف بطلته هي اللغة الهادئة ذات الخيالات القليلة حزينة الطابع التي تتوزع بطول النص وتنشئ منه مرثية للبراءة
 
 
 
فضاء سردي:
 
 
 
بعض القصص تتجاوز الرصد بعين الطفل إلى السرد على لسانه، فقصة "أضأنا كلوبات الجاز" تروي بدقة دهشة الطفل أمام الموت الذي يشهده لأول مرة حيث يداور السرد ويناور حول تيمة الموت مثيراً لدى القارئ نفس حالة الحيرة التي تدهم الطفل في مواجهته الأولى مع الميتافيزيقي،
 
 
 
"لم تعد تستدعي الشمس إلى جلستها كل صباح": تعبير برئ شاعري عن اللحظات العادية في حياة جدة قروية رحلت عن دنيانا، يحيلها إلى رمز للقوة الخيرة والنماء غير المحدودين كما هو الأمر في مخيلة طفل صغير،
 
 
 
وفي "بنات صغيرات" و"ليلة أن اصطدنا الثعلب" يسترجع الكاتب تعرف الطفل الأولي على الجنس وسط مفردات حياة ريفية ينجح في التعبير عنها بكفاءة
 
 
 
"اغتراب": يستخدم الكاتب لغة مكثفة تتنوع الخيالات فيها من براءة الطفولة في بداية القصة (الصغار أغنيات تقطر ألحانها بعسل صاف) إلى الحدث المأساوي ذي الطابع الجنسي الذي تتعرض له الطفلة التي تروى عنها القصة، وينتقل من الجو الحالم بين الطفلين إلى الواقع الصادم بسرعة شديدة تبرز حدة المفارقة الواضحة أصلاً
 
 
 
تحضر رغبة الطفل في الاكتشاف في قصص "كان الراديو قديماً" و"ليلة أن اصطدنا الثعلب" و"سوناتا الفزع والزهو"، صحيح أن الرغبة موجهة نحو أمور مختلفة في كل قصة (الأشياء المادية كالراديو في القصة الأولى، والجنس في الثانية، وخرافات عن عفاريت المقابر في الثالثة) ولكنها في أغلب الحالات تعاقب عقاباً يظل في الذاكرة بعد مغادرة الطفولة، مما يحيلنا هنا إلى القمع بكل أشكاله المختلفة الذي يسري في بعض القصص كنغمة خلفية تبرز من حين لآخر وتتنوع رد الفعل تجاهها فتكون أقرب إلى التمرد في حين (ربما في قصة "المرأة التي تكره الشرفات" مثلاً)، وتسليماً بها كقضاء وقدر في حين آخر (في قصة "تحدث الغائبين وتقسم حبوب الضغط")، ولا تكاد رغبة الاكتشاف الطفولية المحرقة تلك تفلت من معاقبة مجتمع الكبار ذوي السلطة الأسرية لها إلا حين تتوجه نحو ما يخشى هؤلاء الكبار أنفسهم منه (خرافات العفاريت في قصة "سوناتا الفزع والزهو").
 
 
 
"بضع دمعات وبقعة دم": نجد فيها اللغة حيادية تستخدم أوصافاً بسيطة للغاية كما لو أنها تروى على لسان طفل فعلاً، والطفل هنا صغير يدفع به أبوه للعمل مع سائق يعتدي عليه اعتداءاً جنسياً مقابل المال، والحادثة رغم قبحها الشديد لا يتدخل الكاتب في سردها إلا بعلامتي تنصيص صغيرتان لكنهما تصرخان بالتناقض، التناقض بين ما يجب وما يحدث، بين القول والفعل عندما قال الطفل :(سأشتري الآيس كريم من "حر مالي")، وبالعلامتين هاتين نجح الكاتب في تكثيف القصة وإيصال المعنى بلا كلمة واحدة زائدة عن الضرورة، وبذلك هي قصة قصيرة رائعة.
 
 
 
وربما تكون قصة "يذكر نفسه دائماً بشراء الخبز" هي خير ختام لهذه المجموعة حيث الحب الذي يبقى بعد فناء المحبوب ويعبر عنه الكاتب بعبارات رشيقة بسيطة بساطة الأحداث التي خلقت هذا الحب :( ابتسمت، فأضاء صباح أيامه. وعندما انسكب شعرها، كمساء خجلان، اشترى دبلتين).
 
 
 
هذه مجموعة قصصية جميلة وممتعة جداً، أنصح أصدقائي بقراءتها وبقراءة أي عمل آخر لأسامة جاد يمكنهم الحصول عليه، والشكر أخيراً لصديقي الجميل شريف عبد المجيد، الذي وجهني لاقتناء المجموعة أولاً، وشجعني على كتابة قراءاتي البسيطة تلك، ثانياً.
 
أسامة جاد
 
*محمود فطين طبيب بشري من مواليد 1988، وله مجموعة قصصية بعنوان "رقصة النكبة" عام 2009، ومجموعة "المركب بتغرق يا قبطان" تصدُر قريبًا عن دار "الدار".


تعليقات القراء